ايها الاخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ذكر القرآن الكريم في سورة الكهف وقائع تتصل بعدد من اولياء الله، العبد الصالح الذي رافقه نبي الله موسى (عليه السلام) فلم يستطع موسى معه صبراً وذو القرنين ثم فتية الكهف الذين فروا بدينهم من الظلم والكفر فأنامهم الله نومة طويلة ثم بعثهم، هؤلاء الاولياء يتفاوتون في كثير من المزايا والتفاصيل ويتفاوتون في وضعهم المادي بيد انهم يشتركون في نقطة جوهرية هي استمدادهم من نبع واحد هو الولاية لله في اطار عقيدة التوحيد الاصيلة.
كان العبد الصالح عالماً بالاسرار التي تكمن وراء ظواهر الحوادث ولم يحدثنا القرآن ولو بالاشارة عن وضعه المالي وكلما نعرفه عنه في هذا الموضوع انه بات مع موسى (عليه السلام) بغير عشاء لما ابت القرية ان تضيفهما في تلك الليلة.
واهل الكهف عزيزي المستمع يغلب على الظن انهم كانوا ميسوري الحال وكان معهم ما يكفي لاطعامهم حين نهضوا من نومة الكهف لانهم بعثوا احدهم بورقهم اي عملتهم النقدية ليشتري لهم طعاماً، اما ذوالقرنين فكان ملكاً حاكماً في الارض والظاهر انه كان غنياً ذلك ان سياحته في الارض وقدرته على الفتح والحرب تدل على قدرته على الانفاق اللازم.
لقد مر القرآن في الوقائع السابقة عابراً على ما كان عليه هؤلاء الاولياء من الغنى والفقر لان هذه المسألة غير ذات شأن في القصة والواقعة المتعلقة بكل منهم ثم يعرض القرآن الكريم في سورة الكهف نفسها قصة تتصل بقضية الفقر والغنى في الصميم فما هي هذه القصة؟
نعم، ما هي القصة؟ انها عزيزي المستمع قصة رجلين احدهما فقير لا يملك من الدنيا شيئاً والاخر غني ذو ثروة ومال، القصة تصور حوار بين عقليتين، عقلية رجل فقير لكنه من اولياء الله ومن ذوي البصائر والمعرفة الواقعية بحقائق الحياه وعقلية رجل نظر في ثروته فأستكبر ودفعه حرصه على ثروته ان يعد البعث والحساب وهماً من الاوهام، «واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً / كلتا الجنتين آتت اكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً» اذن احد الرجلين فقير والآخر غني يملك حديقتين بديعتين فيهما زرع واعناب ونخيل ونهر، انه اذن ثراء قد استغنى بنفسه، ان الماء موجود فالنهر يجري خلال الجنتين والشمس كائنه والتربة خصبة وكل شيء يؤكد دوام هاتين الحديقتين الى الابد، «وكان له ثمر» كان وفير الثراء والثمر يرمز هنا الى هذه الوفرة ويرمز الى ان الحديقتين كانتا من حدائق الفاكهة ولم تزل حدائق الفاكهة اغلى الحدائق في العالم ولم يزل كسبها اعلى كسب في الاراضي الزراعية، ترى كيف يفكر صاحب الجنتين وكيف يفكر الرجل الذي لا يملك شيئاً، نستمع الى حوارهما كما يقصه القرآن الكريم في سورة الكهف، «وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره انا اكثر منك مالا واعز نفراً» المتكلم هو الغني والعبارة التي يقولها تكشف عن شخصيته من اللحظات الاولى فهو رجل شديد الكبرياء «انا اكثر منك مالا واعز نفراً» ان الكبرياء هو الخطيئة الاولى لصاحب الجنتين، ثم ماذا بعد، «ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما اظن ان تبيد هذه ابداً» دخل الحديقة ونظر في خضرتها وثمارها واحس بالزهو وادلى بأول تصريح من تصريحاته الحمقاء قال «ما اظن ان تبيد هذه ابداً» ظن ان هذا الثراء لن يزول ابداً، تصور انه سيبقى ثرياً الى الابد ونسي ان اسباب الثراء والفقر بيد الله عزوجل، توهم ان اسباب الثراء بيده هو.
حين بلغ هذا الحد من الحماقة لم يعد مؤمناً خرج من الايمان ودخل خيمة الكفر ومن المنطقي اذن ان ينكر البعث والساعة والحساب وكل اصول الايمان قال: «وما اظن الساعة قائمة ولئن رددت الى ربي لاجدن خيرا منها منقلباً» حتى لو افترضنا عزيزي المستمع جدلاً ان هناك بعثاً فعندما يبعث صاحب الجنتين فسوق يراعى وضعه كرجل غني وسوف يجد هناك جنتين افضل من جنتيه هاتين.
اخي المستمع الكريم، استمع صاحبه الفقير الى كلماته، ان ما يقوله صاحب الجنتين كفر وبدأ صاحبه يحاوره «قال له صاحبه وهو يحاوره، اكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً» كأنما اراد ان يقول له: ان الرجل لا يقول ما تقول، ان الرجولة التي تنسى اصلها الترابي او تنسى انها نطفة او تتعالى على خالقها ليست رجولة.
ثم يعلمه صاحبه الفقير: كيف ينبغي ان يكون التصرف الصحيح المرضي «ولولا اذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة الا بالله»بمعنى ان هذه هي بمشيئة الله ولا قوة الا بالله فهو سبحانه مصدر القوة القادر على سلبها وهذه هي حقيقة القوة.
وعاد الرجل الفقير يحاور الغني الذي اطغاه الغنى «إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا / فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا / أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا» بعد هذه النبوءة ينقلنا السياق القراني نقلة مفاجئة الى صورة الجنتين بعد ان تحققت النبوءة «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ» انتهى الثمر تماماً وابيد وتغير حال الكبرياء فصار ذهولاً حائراً متخبطاً يبعث على الضحك «فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًاً»، اكتشف بعد فوات الاوان ان الثراء الفاحش مع الشرك ينتهي الى الهزيمة والفقر وعرف ان لا شيء في الدنيا يبقى الى الابد وادرك انه فصل نفسه عن قوة الله ومشيئته واتصل بما يظن انه قوته الذاتية ومشيئته وحين فعل ذلك فقد انهزم «وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا / هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْباً» بهذه الحقيقة الحاسمة انتهت قصة الرجلين الغني والفقير، انهزم الغني حين فصل بين غناه وقدرة الله عزوجل وانتصر الفقير حين شاءت ارادته ما شاءه الله تعالى لعباده من توحيده والايمان به وعبادته سبحانه.
اخي المستمع هذه القصة وغيرها من ما ذكرته لنا سورة الكهف من شأنها ان تعمق الاحساس بالغيب المقدس المحيي وتقوي الايمان ومن هنا ندبتنا الاحاديث للاكثار من تلاوة سورة الكهف لتحقيق المزيد من الايمان والمزيد من الاقتراب من عوالم الغيب المسعدة. الى حلقة اخرى استودعكم الله.
*******