مستعمينا الكرام في كل مكان السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. حين نريد ان نرسم صورة عن متحف اسلامي جديد في منهجه يضم آثار الفن الاسلامي لا نقصد بناءاً او مؤسسة او اروقة وقاعات تحفظ فيها اوسع الاثار الفنية واندرها واثمنها مما انتجته حضارة المسلمين على مدى الف عام وفي رقعة جغرافية عريضة تتوزع على ثلاث قارات بل الغاية من وراء هذا البحث عن متحف اسلامي هي الوصول الى موقف والى منهج يساعدان في قراءة الفن الاسلامي قراءة اخرى جديدة اوسع واشمل.
ان البحث هنا يا اخي لتفرضه المناقشة القائمة الان حول هذا الفن كما تفرضه الاراء المتعددة في كيفية تفسيره وتذوقه وتقويمه، السعي الى متحف من هذه المنطلقات هو سعي الى تصور منهج جديد يكون نابعاً هذه المرة من خصائص الفن الاسلامي وجماليته وفلسفته لكونه فناً فريداً متميزاً بين الفنون ويكون في الوقت نفسه جواباً عميقاً عن الاسئلة الحرجة الصعبة المطروحة حالياً في الحياة الفنية الحديثة المتصلة بمستقبل الابداع الاسلامي، ومتى راجعنا عزيزي المستمع الخصائص الجوهرية التي تميز بها الفن الاسلامي والتي تميزه عن الفنون الاخرى فربما لا تبدو ثمة حاجة الى متحف له او ربما يبدو المتحف صيغة حديثة للتعرف على الماضي الفني والحضاري صيغة غير فعالة او غير مناسبة للفن الاسلامي وآثاره. وهنا ينبغي ان نتذكر ما قلناه من قبل لدى مناقشة المناهج التي اتبعتها المتاحف في العالم الاسلامي كمتحف القاهرة ومتحف توبكابي في اسطنبول او المتاحف العالمية الاخرى وقد تدين لنا يا اخي ان قراءة الاثار الفنية الاسلامية حسب التطور الزمني السلطوي قراءة لها سمة منطقية في الظاهرة لكنها ليست بقادرة على ان تضيء او تكشف خصوصيات وسمات هذا الفن الجوهرية الجمالية، فأذا كان الفن الاسلامي لا يشهد على العصر فأن الانتقال من عصر الى عصر ومن سلطة الى سلطة لم ينعكس على اساليب وتقنيات الفن وإذا كان من السهل تحديد الفروق الحضارية بين عصر وعصر في السياسة والاجتماع فأن من الصعب جداً قراءة فروق اساسية بين آثار الفن الاسلامي في العهد الاموي والعهد السلجوقي والعهد المملوكي ومن هنا لا يبدو المنهج التاريخي السياسي منهجاً ممتازاً لقراءة آثار الفن الاسلامي قراءة جمالية وابداعية، وقد استبان لنا من قبل ايضاً ان قراءة الفن الاسلامي على طباق تقسيمه الى الانواع التي تجلى فيها اي قراءته في الخط مرة والتصوير والنسيج والخشب والخزف مرات اخرى، هي قراءة قلقة لا تكشف عن الاهداف الجوهرية لهذا الفن على الرغم من تميز هذه القراءة لاحاطتها شبه الشاملة وعلى الرغم من توفيرها لموقف فني محض موضوعي وحيادي، وقد عرفنا ان النوع هنا لا يستقل بكلمته ولا يفرض نفسه كجزء لا يتجزء من المعنى الفتي الاخير. ففي الوقت الذي يختلف فيه الخزف عن الشخب عن الرخام عن النحاس كمادة ونوع لا يختلف الخط المتجلي على الخزف عن الخط المتجلي على النحاس، لا من حيث الاسلوب ولا من حيث الجمالية، ثمة منطلقات اخرى عزيزي المستمع من الخير ان نكشف عنها ونجليها من هذه المنطلقات المهمة ان الفن الاسلامي اذا كان لا يشهد على العصر وكان من الصعب قراءة التاريخ الاسلامي وعصوره المتعددة من خلال آثار هذا الفن فأن الفن الاسلامي لا يرتبط بفردية الفنان اي انه فن غير فردي فلا عاطفة ولا ذاتية ولا معاناة ولا تصور الفنان الفرد، يمكن ان يتضمنها هذا الفن. يصح عزيزي المستمع ان تقرأ مثلاً بيكاسو الانسان ولوناردو دافنشي الانسان من خلال اعمالهما الفنية من لوحات او منحوتات وما اليها بيد انه لا يصح بل من المستحيل التعرف على ابن البواب الانسان من خلال خطه ومن خلال ما تركه من آثار مثيرة جداً طبعت الخط العربي بنظامية وجمالية في غاية الابداع ومعنى هذا كله ان الفن الاسلامي لا يشهد على الفرد كما لم يشهد على العصر، وإذا كان التاريخ الجماعي والتاريخ الفردي بعيدين عن ميدان الفن الاسلامي فإن المكان والزمان هما ايضاً بعيدان.
اجل ان الفن الاسلامي لا يؤرخ ولا يعنى بالزمان ولا بالمكان ونضيف هنا انه فن لا يصف ولا يروي ولا يعبر اي انه بعيد ايضاً عن العواطف الذاتية والمعاناة الفردية. ان هذه السمات وهذه الخصائص جميعاً مما تميزت به الفنون الكثيرة هي التي شكلت الاسس لصيغة المتاحف التي يعرفها العالم اليوم والتي نستطيع من خلالها قراءة الماضي وفهمة وتقويمه وتفسيره والافادة منه.
عزيزي المستمع، كيف ينبغي ان تكون صيغة المتحف الاسلامي اذن؟ وما عساه ان يكون؟ ان عودة سريعة الى التجليات الاولى للفن الاسلامي تكشف لنا ان المتحف الذي نبحث عنه موجود وقائم منذ زمن بعيد، انه لموجود قبل ان يصل الغرب لايجاد صيغة المتاحف الحالية ولعل هناك من يفاجيء إذا قلنا ان متحف الفن الاسلامي هو الجامع ذلك ان الجامع كمركز ديني وبناء فني يجمع كافة الانواع والاساليب والتقنيات التي عرفها الفن الاسلامي خلال عشرة قرون، فن العمارة تجلى في المسجد النبوي وقبة الصخرة والاقصى منذ امد بعيد، ففي مثل هذه الاماكن المقدسة ولد الفن الاسلامي ولادة تامة منذ البدء، ففن الخط وفن الرقش اي الزخرفة وفن الحفر وفن الخزف وفن السجاد وجميع تلك الفنون التي عرفتها الحضارة الاسلامية انما هي فنون ولدت في الجامع وعاشت فيه، ومعنى هذا اننا نستطيع ان نلتقي بمعظم تجليات الفن الاسلامي في تطوافنا وتجوالنا حول الجامع وفي داخله بيد ان مسألة مهمة ينبغي ان نبادر الى تجلياتها وهي ان الوقوف في المسجد والجامع على انه متحف للفن الاسلامي يبدو من زاوية ما شركاً خفياً، فالمكان هنا للصلاة وهو ايضاً للشهادة على ان الله جل جلاله واحد احد لا شريك له اي اننا في هذا المكان مع الدين لا مع الفن، مع الله تعالى لامع الانسان، مع الرب لامع العبد الا ما يشفع لمثل هذا القول ويشجع عليه هو الفن الاسلامي نفسه فأذا كانت الغاية من اعتبار الجامع متحفاً للفن الاسلامي هي الاصغاء العميق لهذا الفن او الوصول الى اهدافه وخصائصه وسماته الجوهرية فإن ما يسعى الى قوله الفن الاسلامي نفسه هو دفعنا من جديد لتكرار شهادة التوحيد ولتسهيل الطرفات المؤدية الى الصلاة، ان الفن هنا ينبع من الدين ويلتزم بالدين ويشهد على الدين. الفن الاسلامي يعبر عن رؤية للعالم توحي له في وقت واحد بغاياته وبموضوعاته، بأفصاحاته التشكيلة ووسائله التقنية ففي الاسلام كما قيل جميع الفنون تؤدي الى المسجد والمسجد يوصل الى الصلاة، ان الجامع الذي تكاد تكون حجارته نفسها تصلي مركز اشعاع لجميع فعاليات الامة الاسلامية وهو نقطة الالتقاء لجميع الفنون.
مستمعي الكريم، من هذا المنطلق يمكننا ان نصف الفن الاسلامي بأنه فن منهج اكثر منه فن انواع وآثار واعمال وهو فن مبدأ اكثر منه فن اساليب وتقنيات وفي الوقت نفسه نستطيع ان نصفه بأنه فن يشهد على الافكار والمعتقدات الاسلامية الكبرى ويطبقها دون ان يكون فناً مفسراً وشارحاً للدين، انه انطلاقاً من القيم الفنية الحديثة فن شكلي تجريدي هندسي بيد ان هذه الشكلية متميزة عن الشكلية التي يتحدث عنها الفن الحديث، الشكل في الفن الاسلامي ليس طرفاً او قطباً اساسياً من طرفي الشكل والمضمون او من قطبي الصورة والمعنى بل هو شكل طرفاً في معادلة الشكل والجوهر او الغيب والشهادة او الظاهر والباطن والفرق شاسع وكبير بلا ريب. مستمعي الكريم هكذا انتهى وقت هذا البرنامج شكراً لكم والى اللقاء.
*******