السلام عليكم ايها المستمعون الكرام ورحمة الله.
الفنانون الشرقيون المحدثون الذين حاولوا استلهام الفن الاسلامي في اعمالهم الفنية قد غفلوا عن حقائق مهمة تميز الفن الاسلامي ومن هنا جاء ت اعمالهم هذه شكلاً خالياً من الخصائص الفنية والفلسفية التي كان يصدر عنها الفنان المسلم القديم، من هذه الخصائص الوظيفية التي يحققها الخط العربي او السجادة او قطع النحاس والخزف والخشب وهي وظيفية تفتقدها اللوحة الحديثة التي تدعي بأستلهام الاثار الفنية والتراثية، اذا ما تزال وظيفة اللوحة العربية والشرقية الحديثة تقع ضمن وظيفة اللوحة الغربية الحديثة وهي وظيفة معنوية ثقافية، وقد كان الفن التراثي تغيب عنه ذاتية الفنان الفرد ومشاعره ومشاكله كفرد فأن اللوحة الحديثة التي تدعي بأستيحاء التراث ما هي الالوحة ذاتية فردية تضع ذات الفنان في موقع الصدارة من بين منابع الالهام الفني. اما وحدة الاساليب التي عرفها الفن الاسلامي التراثي فأنها قد تحولت في اللوحة الحديثة الى طرف المناقض اذ ان النقد الحديث يرى في وحدة الاساليب تكراراً وسلبية في الابداع وحين يجمع الاسلوب الواحد اكثر من فنان فأن الرؤية الحديثة ترى في الامر تقليداً او تأثراً ذميماً وسوف يزداد الجدل والنقاش حتى تنتقل الى التجريد الذي يشكل اهم خصائص الفن الموروث وهو يبدو لدى الفنان المسلم القديم مبدءاً جوهرياً لا يمكن تجاوزه ومثل التجريد قضية المحاكاة التي الغاها الفن الاسلامي ولم يكترث بها.
الظاهرة اللافتة للنظر في موضوع التجريدية هي انها لم تناقش بجدية، فالتجريدية كتيار فني حديث تطرح اسئلتها الحرجة في حركة الفنون التشكيلية في بلاد المسلمين، عندما نصغي بأنتباه وجد الى النداءات التي رفعت شعارات العودة الى التراث الفني واستلهامه والنداءات التي قالت بالاصالة الفنية وبالهوية الحضارية وبالخصوصية التي تميز بين غرب وشرق وبين محلية واقليمية وعالمية، معظم الفنانين لم يروا تناقضاً بين التجريدية كما حققها الفن الحديث وبين فن التراث وبخاصة تراث الفن الاسلامي، بل ان الصورة قد بدت لهم اكثر اغراءاً عندما وجدوا نماذج عديدة من الاعمال التجريدية العالمية تجمع بين تجريد حديث وتجريد تراثي كما هو الحال في اعمال بول كيلية التي استوحى فيها الخط العربي او الفن الاسلامي بعد مشاهدته معارض الفن الاسلامي في المانيا وبعد زيارته الشهيرة لتونس وهكذا وجد معظم الفنانين المتحمسين لارتباط اقوى بالتراث من جهة وبالحداثة من جهة اخرى وجدوا حلاً مثالياً في صيغة الجمع هذه التي برزت عند كبار فنانين القرن العشرين قرن الحداثة الفنية.
جميع الفنانين الذين استلهموا الخط العربي التراثي على سبيل المثال قد اقاموا اللوحة بوحي من قيم التجريد الغربي من خلال اعتبار اللون والمساحة والفراغ والشكل هي العناصر الجوهرية الوحيدة في صياغة اللوحة وابداعها، اما الحرف العربي او العناصر الفنية المستلهمة من فنون التراث فكانت في معظم حالاتها مجرد عناصر توحي بالهوية اكثر كثيراً مما تحمل الجمالية التي حملها فن التراث.
لقد غاب مع الحماسة الشديدة التي مضى فيها الفنانون الى هذا الجمع بين التراث والحداثة غاب عنهم السؤال الآتي:
أثمة فعلاً تطابق بين التجريدية الحديثة وتجريدية فن التراث؟ مثل فن الخط والزخرفة وما جاء منهما والتقى بهما وغاب ايضاً عنهم سؤال اهم من ذلك، اترى الجمالية التراثية تلتقي مع الجمالية الحديثة من حيث الرؤية الفلسفية والفهم الشامل لمعنى الفن ودوره، اثمة تطابق بين المنطق الفني الذي يحمله فن التراث وبين المنطق الفني الذي تدعو اليه اللوحة الحديثة؟ فقد ردد اكثر من فنان انه في استلهامه التراث الفني وخاصة الخط العربي انما يأمل من الخط ان يتحول الى عناصر تشكيلية تنضم الى سائر العناصر التي تكون اللوحة الحديثة، وقد بدا واضحاً ان القصد من وراء هذا الموقف انما هو استلهام الجانب الفني والجمالي وحده واهمال الجانب الوظيفي والجوانب الاخرى في عملية التواصل مع التراث او في عملية اشراك الخط في كتابة اللوحة الحديثة وقد بدا واضحاً ايضاً منذ البداية ان السعي متجه نحو المزيد من الانتماء الى اللوحة الحديثة والى قيمها الفنية التي شكلت ما تمكن تسميته جمالية الفن الحديث.
لقد فصل الفنانون المحدثون بين الخط بأعتباره فناً في نفسه وبين الخط بأعتباره وسيلة فنية تؤدي وظيفة اساسية في ايصال المعنى اللغوي، ومن هنا لم يعد الخط او لنقل حروف العربية في اللوحة الحديثة لم تعد تلتقي او تنفصل لتكون كلمات او جمل ذات معنى بل هي هنا مجرد اشكال او خطوط او مساحات او الوان او احجام او فراغات وما اليها من عناصر سمتها اللوحة الحديثة مفردات اللغة الفنية الجديدة ومنها ندرك ان هذا الموقف الذي وقفه معظم الفنانين المحدثين من الاثار الفنية التراثية انما يجيء منسجماً او ملتزماً بمقولة الفن الحديث الذي حرر اللوحة من كونها وسيلة لموضوع او فكرة خارجة عن اللوحة، سواء كان هذا الموضوع منظراً طبيعياً ام كان واقعاً اجتماعياً ام تاريخياً ام غيره، ذلك ان للفن والرسم موضوعاتهما الخاصة فهما عالم مستقل قائم بذاته فلابد اذن ان تستقل عناصرهما وتقوم بذاتها.
لقد بدأ معظم الفنانين المحدثين انهم في هذا الموقف لا يبتعدون عن الخصائص الجمالية لفن التراث فهو فن تجريدي او فن شكلي او فن يهمل نظرية المحاكاة وهو يحقق في تشكله الاخير عالماً مستقلاً في نفسه متميزاً من الواقع المرئي او الطبيعي وجميع هذه الخصائص هي خصائص وسمات دعى اليها وحققها مؤسس الفن الحديث ومبدعوه الكبار، وبذلك يحقق الفنانون شعارهم الكبير استلهام التراث ومواكبة العصر ويحققون ايضاً الاصالة والحداثة في وقت واحد.
الى هنا يبدو هذا الموقف منطقياً متماسكاً وصحيحاً كذلك يبدو حلاً منطقياً او جواباً عن الاسئلة التي طرحتها المجتمعات العربية والاسلامية الشرقية في بحثها المضني عن ازدهار وتقدم الحضارة او في قلقها وحيرتها بين قديم وحديث، بين شرق وغرب، بين اصول وابتداع ولكن هل كان الامر كذلك؟ ان هذا الامر لا يختلف ويهتز عندما ننتقل من النظرية الى التطبيق او عندما نبدأ بقراءة العمل الفني الحديث قراءة جمالية آخذين بعين الاعتبار كلاً من جمالية فن الخط وجمالية اللوحة الحديثة، هذا الاختلاف والاهتزاز ينبع من التناقض الذي يظهر عند مقارنتنا بين الاهداف الكبيرة لمعنى الفن او لمعنى التجريد او لمعنى الشكل الذي ظنه الفنانون المحدثون انه تقارب وتماثل، القول بتحويل الخط الى عناصر تشكيلية وان بدا منطقياً قول غامض من الناحية الجمالية فعندما نقف ازاء الخط التراثي كعناصر تشكيلية معناه اننا منحناه استقلالاً جمالياً قائماً بذاته بيد اننا حين نقف امام اللوحة الحديثة التي استخدمت الخط عنصراً تشكيلياً نجد ان جماليته لن تعد مستمدة من التراث بل من مقولات الفن الحديث والسلام عليكم ورحمة الله.
*******