تحية لكم ايها الاصدقاء الاعزاء، في الاثار الفنية التي ورثناها من الفن الاسلامي لا تجد موضوعاً يعالجه الاثر كما هو حال اللوحة التي نقف بأزاءها فنلتقي بالموضوع، ان الموضوع في ابداعية الفن الاسلامي يغيب كعنصر اساس، او كطرف جوهري من البنية الجمالية وغياب الموضوع هذا يعد من خصائص هذا الفن وانه لا يدفع المتأمل الى ايجاد اسلوب آخر للتذوق والاقتراب والفهم، ترى كيف نفسر هذا الغياب؟ وكيف نفهمه؟ اتراه نقصاً جوهرياً يعتري الفن الاسلامي الموروث ام هو اهمال سلبي؟ ام تراه وقع عن قصد مخطط له مدروس؟ كان من الممكن يا اخي حثر الفن الاسلامي بسبب اهماله موضوع الانسان في اعماله والطبيعة في صفاتها وواقعها في ضمن الفنون الصغيرة او الفنون التزئينية وكان يمكن اعتباره اتجاهاً فنياً هامشياً في منظومة التوجة الابداعي الانساني العام كما فعل كثير من مؤرخي الفن ونقاده عندما وصفوا الفن الاسلامي بأنه فن زخرفي يقع في عقل الفنون الصغيرة، بيد ان هذا مما لا يصح بالقياس الى الفن الاسلامي بأعتباره فناً هيمن وانتشر وفرض حضوره، في قارات العالم كله، وبين شعوبه ووسط بيئاته المختلفة من الصين الى الاندلس بطريقة مدهشة واسلوب اخاذ، انه لامر يدعو الى التأمل العميق والدهشة عندما نعترف بحضور الفن الاسلامي وهيمنته لدى الشعوب التي عرفت فنونها مختلفة ومتميزة كفنون الشرق الاقصى وفنون آسيا الوسطى قبل اسلامها وفنون مصر وفنون الجزيرة العربية قبل انبثاق فجر الاسلام، فما السر اذن في احتضان هذه الشعوب لهذا الفن وما المعنى الذي جعلها تشارك في ابداعه؟
انه لتفسير الفن الاسلامي لابد يا اخي من العودة الى تلك الصلة الحميمة بين الفن الاسلامي والدين الاسلامي، فمن خلالها نستطيع ان نتعرف التفسير الادنى الى الصواب لاسقاط الموضوع في هذا الفن خاصة حين نتلمس ان وراء هذا الاسقاط او الغياب للموضوع موقفاً جمالياً او فلسفياً متكاملاً، لقد تمت ولادة الفن الاسلامي اول ما تمت في المسجد، وإذا كان فن الخط قد تجلى اولاً في المصاحف وفي العمارة الدينية فأن مظاهر العبادة ومقدمات الصلاة وكذلك شروطها وواجباتها من وضوء وتكبير وسجود وذكر وتسبيح وما الى ذلك قد دفعت الفن الاسلامي لان يتجلى في سجاجيد ومحاريب ومنابر ومآذن وشمعدانات ومصابيح للانارة ومحافظ وكراسي للمصاحف وساعات وبوصلات لمعرفة اوقات الصلاة واتجاه القبلة وطاسات واباريق وسبحات وقماقم للوضوء وما يرتبط بالستر والذكر والتعطر، ان جميع هذه الادوات لم تتوقف عند وظيفتها العملية بل انها منذ البداية تحولت الى مجال للفن خطاً وزخرفة ونقشاً ونسجاً وتذهيباً، ترى ما معنى هذا وما هي دلالته؟
معنى هذا هو ان الاسلام يسري منذ البدء في عروق الفن الاسلامي ويتغلغل في خلاياه، فكان هذا الفن يترجم المعاني الدينية التوحيدية الى فلسفة جمالية ولفهم غياب الموضوع انساناً وطبيعة تحاكى، في الفن الاسلامي لابد لنا من الوقوف على الفهم الديني للانسان وللعالم، ان عبقرية الفن الاسلامي لتكمن في هذه المماسة المدهشة بين الفن والدين فالدين يتجلى في هذه المماسة في مباديء كلية ومعاني علوية، تحكم العوالم بأسرها من انسان وفضاء وطبيعة من كل ما تحتوي عليه ومتى ما اخذ المتأمل في الفن الاسلامي بهذا الفهم الديني الرفيع للانسان والعالم فأنه يتحول لديه غياب الموضوع عن العمل الفني من كونه شكلاً فنياً الى كونه واحداً من المباديء الجمالية الفلسفية المتميزة. ان غياب موضوع الانسان في افعاله وغياب موضوع الطبيعة يغدو من خلال هذا الفن الشمولي الذي اشرنا اليه ترجمة لغياب الانسان والطبيعة ازاء محضر الله الواحد القهار جل جلاله الكريم او هو ترجمة لوجود هما النسبي المجازي ازاء وجود الله المطلق الحقيقي، ان الله سبحانه وتعالى هو وحده الحي الباقي واهب الحياة والوجود الذي يمثله الانسان او تمثله الطبيعة انما هو وجود عرضي، وجود مجازي، يشهد الوجود الحقيقي الذي هو فوق الازال والاباد، الله جل وعلا، يشهد كل هذا ويبدعه بعظمته التي لاحد لها والحاضر الحقيقي إذن يا اخي هو الغيب الحي الواقعي إذن هو الغيب وما العالم بأنسانه وطبيعته وفضاءه الا الشهادة على هذا الحاضر المطلق المقدس وهو تجلي من تجليات هذا الحي الدائم العظيم.
يقوم الفهم الديني إذن على الايمان بالغيب والايمان بعالم الشهادة كمظهر لهذا الغيب وظهور من ظهوراته وما في هذه الثنائية الظاهرية صراع بين طرفيها بل ان هذا الفهم يقيم ارتباطاً بين عالم الشهادة وعالم الغيب والانسان في هذه الثنائية هو العبد ازاء الرب والطبيعة في حيوانها ونباتها وماءها وطيرها وكواكبها لتسبح وتشهد على وجود الخالق العظيم وما الانسان في افعاله وعواطفه واماله ومسيرته الا ليشهد كذلك على المشيئة الالهية العظيمة. ان الله جل جلاله وحده خالق كل شيء قادر على كل شيء والانسان العبد هو الشاهد. ومن هنا يبدو الاهتمام بأفعال الانسان او بمظاهر الطبيعة اهتماماً بالعرضي الزائل وعندما نكون مع فن حضر مع حضور الدين وسعى ليكون شاهداً عليه ومجلاً له نفهم لماذا لم يعنى بالعرضي الزائل ولماذا لم يتناول افعال الانسان ومظاهر الطبيعة كموضوعات للعمل الفني، غياب الموضوع إذن يا اخي ليس نقصاً في الرؤية الفنية ولا هو من قبيل الاهمال او العجز او من قبيل السلبية في الفن ان هذا الغياب لقضية مبدئية في عالم المعنى، اجل انه لموقف فني وجميل.
ان مبدأ العلاقة بين الشهادة والغيب هو الموضوع الذي سيكون بديل موضوع افعال الانسان في العمل الفني وبديل موضوع مظاهر الطبيعة وهكذا فنحن لا نقف منذ البداية على شيء اسمه صراع بين الانسان والعالم ولا بين الانسان ونفسه، الفن وهو شهادة الانسانية الكبرى لن يصدر الا عن انسان مؤمن والايمان ليس غير التسليم ازاء الارادة الالهية العظيمة انه ليس ثمة صراع بل ثمة ايمان وإذ يلغى الصراع تستخفي عندئذ العواطف الفردية والحوادث الشخصية، اي يلغى الزمان وعلى هذا فسقوط الزمان ومن ثم سقوط المكان في مثل هذا الموقف هو من المباديء الدينية التي يعانقها الفن الاسلامي ويأخذ بها كمنطلقات جمالية فلسفية ان المبدأ ليتحول هو نفسه الى موضوع فيغدو هو المضمون اي هو المعنى وهو الجسد وهو اخيراً الهدف الذي يسعى اليه هذا الفن. والى لقاء آخر دمتم بألف خير.
*******