هتف إليّ الأخ الكريم عبد الحميد الصوّاف من دار السلام بغداد - صانها الله عن كلّ سوء- أن من القائل:
إنّما الميت من يعيش ذليلاً
سيّئاً باله قليل الّرجاء؟
قلت للاخ الصوّاف الكريم: قائل هاذا البيت هو الشاعر الجاهليّ عديّ بن الّرعلاء الفسّانيّ، والرّعلاء أمّه، اشتقّ اسمها عن قولهم: ناقة رعلاء، إذا قطع من أذنها قطعة، وتركت تنوس- أي: تتذبذب متدلّية.
وبيته هاذا سادس ستة أبيات قالها يوم أباغ وهو أحد أيّام العرب المشهورة.
وأباغ: واد وراء الأنبار على طريق الفرات إلى الشام اقتتل فيه المنذر بن المنذر اللخميّ ملك الحيرة والحارث الأعرج الفسّانيّ - وهو الحارث الأكبر- ملك دمشق، وقتل فيه المنذر، فوصف الشاعر ما دار بين الإخوه العرب: أتباع الرّوم في الشام، وأتباع الفرس في العراق، وصوّر عواقب الحرب ببيتين ذهباً مثلاً من أمثال الحكمة البليغة، وهما البيتان الأخيران.
وإنّما ذكرت كلّ هاذا الكلام، ليشرق منه ما ينفع الناس. وهاذه هي أبيات ابن الرّعلاء:
ربّما ضربة بسيف صقيل
دون بصرى وطعنة نجلاء
وبصرى: قصبة من أعمال دمشق.
ونجلاء: واسعة.
وغموس تضلّ فيها يد الآسي
ويعيا طبيبها بالدّواء
والغموس: النّجلاء.
والآسي: من يأسو الجراح، أي: يعالجها.
ويعيا: يعجز.
رفعوا راية الضّراب وآلوا
ليذودنّ سامر الملحاء
وآلوا: أقسموا.
ويذودون: يطردون ويدفعون.
والسّامر: اسم جمع للمتحدّثين ليلاً.
والملحاء: كتيبة لآل المنذر.
فصبرنا النفوس للّطعن حتى
جرت الخيل بيننا في الدّماء
ليس من مات فاستراح بميت
إنّما الميت ميّت الأحياء
قال: ليس الميت من استراح بالموت، وإنّما هو الحيّ الخامل لا يعبأ به، وهاذا تنديد بالذليل.
إنّما الميت من يعيش ذليلاً
سيّئاً باله قليل الرّجاء
وهاذا البيت الأخير شرح لسابقه الجميل جدّاً، وكلاهما من أمثال الحكمة البليغة. وسألني الصّديق الحميم أبو زيد التميميّ من القدس الشريف أن لمن هاذا البيت:
وما هو إلاّ كافر طال عمره
فجاءته لمّا استبطاته جهنّم؟
قلت للصديق الحميم التميمي الكريم: هاذا البيت لنشء الملك أبي الحسن عليّ بن مفرّج المعروف بابن المنجّم المعرّيّ الأصل المصريّ الدّار والوفاة.
وبيته الذي نحن بصدده هو ثالث بيتين قالهنّ في احتراق دار لدلال الكتب الوجيه ابن صورة المصريّ موصوفة بالحسن، فاحترقت، وبعثت ابن المنجمّ على القول:
أقول وقد عاينت دار ابن صورة
وللنّار فيها مارج يتضرّم
كذا كلّ مال أصله من مهاوش
فعمّا قليل في نهابر يعدم
وما هو إلاّ كافر طال عمره
فجاءته لمّا استبطأته جهنّم
قال المرحوم ابن خلّكان: والبيت الثاني مأخوذ من قوله (صلّى الله عليه وسلّم): من أصاب مالاً من مهاوش، أذهبه الله في نهابر.
والمهاوش: الحرام.
والنّهابر: المهالك.
والوجيه ابن صورة هو أبو الفتوح ناصر بن أبي الحسن عليّ بن خلف الأنصاريّ، وكان له حظ كبير في تجارة الكتب، يجتمع عنده يومي الأحد والأربعاء أعيان الرّؤساء والفضلاء، ويعرض عليهم ما يباع من الكتب، ولا يزالون عنده إلى انقضاء السّوق.
وتوفّي في السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة سبع وست مئة بمصر، ودفن في قرافتها.
وكتب إليّ المستمع الكريم مرزوق العنزيّ من السّماوه بالعراق أن لمن هاذا القول:
تسري الفواظر في مراكب حسنه
فتكاد تغرق في بحار جماله؟
قلت لمستمعنا العنزيّ الكريم: هاذا القول للبهاء السنجاريّ وهو أبو السّعادات أسعد بن يحيى بن موسى بن منصور بن عبد العزيز الفقيه الشافعيّ الشاعر المجيد الذي طاف البلاد، ومدح الملوك والأكابر، ونال جوائزهم بروعه إبداعه الآسر.
ومنها نسيبه في قصيدة مدح بها القاضي أبا الفضل محمّداً كمال الدّين بن عبد الله الشهرزوري قاضي دمشق الفقيه الأديب الشاعر الكاتب الّظريف الفكه الجيّد الشعر المتوفى يوم الخميس سادس المحرّم سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة بدمشق عن ثمانين سنة وأشهر، ودفن في جبل قاسيّون.
وهاذا هو نسيب البهاء السّنجاريّ في مدحه له، ومنه البيت المسئول عنه.
وهواك ما خطر السّلوّ بباله
ولأنت أعلم في الغرام بحاله
ومتى وشى واش إليك بأنّه
سالٍ هواك فذاك من عذّاله
أو ليس للكلف المعنى شاهد
من حاله يغنيك عن تساله
جدّدت ثوب سقامه وهتكت سرَّ
غرامه وصرمت حبل وصاله
أفزلّة سبقت له أم خلّة
مألوفة عن تيهه ودلاله
يا للعجائب من أسير دأبه
يفدي الّطليق بنفسه وبماله
بأبي وأمي نابل بلحاظه
لا تتقي بالدّرع حدّ نباله
ريّان من ماء الشبيبة والصّبا
شرقت معاطفه بطيب زلاله
تسري الفواطر في مراكب حسنه
فتكاد تغرق في بحار جماله
*******