كتب إليّ الأخ عبد الملك الشريف من جدّة بالحجاز أن لمن هاذا القول:
أحنّ إلى الكأس التي شربت بها
وأهوى لمثواها التّراب وما ضمَّا؟
قلت للأخ الشريف العزيز: هاذا رابع بيت من قصيدة ذائعة في الأدب والتاريخ لحكيم الشّعراء أبي الّطيب أحمد بن الحسين الكنديّ الكوفيّ المعروف بالمتنبّي المتوفى قتيلاً في أخريات شهر رمضان من سنة أربع وخمسين وثلاث مئة.
وقال هذه القصيدة راثياً بها جدّته لأمه التي كتب إليها كتاباً أتاها بعد يأس وطول فراق، فقبلته، وفرحت به، وحُمَّتْ من وقتها بما غلبها من السّرور، فماتت.
وهاذا مطلعها وأبيات منها بينها البيت المسئول عنه:
ألا لا أري الأحداث مدحاً ولاذمّا
فما بطشها جهلاً ولا كَفُّها حلما
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى
يعود كما أبدى ويكري كما أرمى
ومعنى أبدى أبدأ، أي: بدأ، والفعلان المجرّد بدأ، والمزيد أبدأ لازمان متعدّيان. ويكري مضارع أكرى، أي: نقص.
أرمى: زاد.
ومعنى البيت أنّ الإنسان لابدّ له من الرجوع إلى حاله الأولى، وأن يعود كما بدأ وينقص كما زاد.
ويمضي أبو الّطيّب في رثائه لجدّته بهاذا البيان الباكي:
لك الله من مفجوعة بحبيبها
قتيلة شوق غير ملحقها وصما
لك الله: دعاء لها، وحبيبها هو حفيدها الشاعر نفسه.
والوصم: العيب.
أحنّ إلى الكأس التي شربت بها
وأهوى لمثوها التّراب وما ضُمَّا
بكيت عليها خيفة في حياتها
وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
والّثكل والّثكل: فقد ان الحبيب.
أراد بكيت عليها في حياتها خوفاً من فقدها، وتغرّبت عنها، فذقت فقدها، وذاقت فقدي.
والبيت الأخير يذكّر بقول شاعر غُفْلٍ ورد في باب النّسيب من حماسة أبي تمام، وهو:
ما في الأرض أشقى من محبّ
وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كلّ حين
مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم
ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي
وتسخن عينه عند التلاقي
بعث إليّ الأخ سعدي السّعدي من الحلّة بالعراق أن لمن هاذا البيت:
ما لي أراك كأنّ عينك لا ترى
عبراً تمرّ كأنّهنّ سهام؟
قلت لأخي السّعدي الكريم: هذا البيت للشاعر المشهور أبي إسحاق إسماعيل بن القاسم العنزيّ المعروف بأبى العتاهيه المولود بعين التمّر، وهي بليدة من أعمال كربلاء.
وكانت نشأته بالكوفة، وسكناه ووفاته ببغداد سنة إحدى عشرة ومئتين عن إحدى وثمانين سنة من العمر تقريباً.
وبيته المسئول عنه من بديع شعره المغنّى، وهو من أبيات هاذا ترتيبها:
نادت بوشك رحيلك الأيام
أفلست تسمع أم بك استصمام
ومضى أمامك من رأيت وانت
للسباقين حتى يلحقوك إمام
ما لي أراك كأنّ عينك لا ترى
عبراً تمرّ كأنّهنّ سهام
تمضي الخطوب وأنت منتبه لها
فإذا مضت فكأنها أحلام
*******