سألني الأخ رضا الرّضويّ من ساحل العاج: من القائل:
والله ما سرت الصبا نجديّة
إلاّ وكدت بدمع عيني أشرق؟
قلت للأخ الرّضويّ العزيز والزوار الكرام: هذا البيت من قصيدة للحاجري الإربليّ أبي يحيى عيسى بن سنجر بن بهرام الملقّب حسام الدّين، وهو جنديّ من أبناء الأجناد له ديوان شعر رقيق المعاني، وثيق المباني ضمّ الّشعر والدّوبيت والمواليا. وقد أحسن في الكلّ وقلّ من يجيد في الثلاثة كلّها.
وقتل عن خمسين سنة في الخميس ثاني شوّال من سنة اثنتين وثلاثين وستّ مئة.
وبيته المسئول عنه هنا من قصيدة قالها وهو مقتل في قلعة إربل سنة ستّ وعشرين وستّ مئة، ومنها:
يا برق إن جئت الدّيار باربل
وعلا عليك من القّداني رونق
بلّغ تحيّة نازح حسراته
أبداً بأذيال الصّبا تتعلّق
قل يا جعلت لك الفداء أسيركم
من كلّ مشتاق إليكم أشوق
والله ما سرت الّصبا نجديّة
إلاّ وكدت بدمع عيني أشرق
كيف الّسبيل إلى اللقاء ودونه
شمّاء شاهقة وباب مغلق
وحاجر التي نسب إليها هي بليده بادت، وهي حجازيّة، وهو إربليّ أصلاً ومولداً ومنشأ، وإنّما نسب إليها لذكره لها كثيراً في شعره، ولمّا غلبت عليه النّسبة إليها عمل فيها دو بيت، وهو:
لو كنت كفيت من هواك البينا
ما بات يحاكي دمع عيني عينا
لولاك لما ذكرت نجداً بفمي
من أين أنا وحاجر من أينا
كتب إلّي زكي يوسف من الموصل في شمال العراق أن لمن هذا البيت:
إن كانت النّفس لا تبدو محاسنها
في اليسر صار غفاها من محازيها
قلت زكي يوسف: هذا البيت من قصيدة في التهذيب الاجتماعيّ للّشاعر اللبنانيّ المغترب إيليا أبي ماضي المولود على الأرجح سنة تسعين وثماني مئة وألف لميلاد سيدّنا المسيح (عليه السّلام) في قرية المحيدثة في المتن الأعلى بجبل لبنان، والمتوفّى سنة سبع وخمسين وتسع مئة وألف للميلاد في نيويورك. ومطلع هذه القصيدة هو:
خذ ما استطعت من الّدنيا واهليها
لكن تعلّم قليلاً كيف تعطيها
ومنها قوله المسئول عنه وما بعده، وإن كانت الّنفس لا تبدو محاسنها:
في اليسر صارغناها من مخازيها
يا عابد المال قل لي هل وجدت به
روحاً قواسيك أو روحاً تواسيها
حتّام يا صاح تخفية وتطمره
كأنّما هو سوءات تواريها
غنظر إلى الماء إنّ البذل شيمته
يأتي الحقول فيرويها ويحييها
فما تعكّر إلاّ وهو منحبس
والّنفس كالماء تحكيه ويحكيها
وفي هذه القصيدة سناد الجمع بين المؤسّس وغيره، وهو من عيوب القافية.
فالأبيات الثاني والثالث والرابع مؤسّسة بالألف، أي: أنّ حروفها الأربعة الأخيرة مسبوقة بالألف.
والبيت الأوّل - أي: المطلع - والخامس والسادس غير مؤسّسة، أعني أنّ حروفها الأربعة الأخيرة غير مسبوقة بالألف.
وعند التأمّل لا يبدو سناد التأسيس الذي ارتكبه أبو ماضي هنا قبيحا. وبعث إليّ الأخ عبد العزيز الحمدانيّ من تونس الخضراء أن من القائل:
إغار إذا آنست في الحيّ أنّة
حذاراً وخوفاً أن تكون لحبّه؟
قلت للأخ الحمدانّي العزيز: هذا البيت من قصيدة رائعة لابن الخيّاط الدّمشقيّ الشاعر الكاتب المجيد في الصّنعتين الجميلتين وهو أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن عليّ بن يحيى بن صدقة الّتغلبيّ. وقصيدته المشار إليها منها:
خذا من صبا نجد أماناً لقلبه
فقد كاد ريّاها تطير بلبّه
وإيّا كما ذاك النّسيم فإنّه
متى هبّ كان الوجد أيسر خطبه
خليليّ لو أحببتما لعلمتما
محلّ الهوى من مغرم القلب صبّه
تذكّر والّكرى تشوق وذو الهوى
يتوق ومن يعلق به الحبّ يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه
وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الرّكب مطويّ الضّلوع على جوىً
متى يدعه داعي الغرام يلبّه
إذا خطرت من جانب الرّمل نفحة
تضمّن منها داؤه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنّة معرض
وفي القلب من إعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحيّ أنّة
حذاراً وخوفاً أن تكون لحبّه
وهي قصيدة طويلة غرّاء في مدح مجدالدّين أبق بن عبد الرّزاق نكتفي بما ذكرناه منها.
وقال الأديب الشاعر المؤرّخ النّاقد قاضي القضاة ابن خلّكان في ابن الخيّاط الّدمشقيّ الذي نتحدّث به الآن: (ولو لم يكن له إلاّ قصيدته البائيّة التي أوّلها:
خذا من صبا نجد أماناً لقلبه
فقد كاد ريّاها يطير بلبّه
لكفاه، وأكثر قصائده غرر.
وديوان ابن الخيّاط الدّمشقيّ مشهور في الناس قديما، وحديثاً طبع في دمشق بتحقيق المرحوم خليل مردم سنة ثمان وخمسين وتسع مئة وألف للميلاد المتعارف.
وكانت ولادة ابن الخيّاط (رحمه الله) بدمشق سنة خمسين وأربع مئة، ووفاته بها أيضاً في حادي عشر شهر رمضان من سنة سبع عشرة وخمس مئة.
*******