قال يحيى بن اكثم قاضي قضاة المأمون، قال لي المأمون من تركت بالبصرة؟ فوصفت له مشايخ منهم سليمان بن حرب، وقلت له هو ثقة حافظ للحديث، عاقل في نهاية الستر والصيانة، فأمر بحمله اليه، فكتبت اليه في ذلك فقدِم، فاتفق ان ادخلته اليه، وفي المجلس بن ابي ذواد وثمامة وامثالهما، فكهرت ان يدخل مثله بحضرتهم، فلما دخل سلم فاجابه المأمون ودعا له سليمان بالعز والتوفيق، فقال بن ابي ذواد: يا امير المؤمنين نسأل الشيخ عن مسألة؟
فنظر اليه المامون نظرة تخيير له، فقال: سليمان يا امير المؤمنين حدثنا حماد بن زيد قال، قال رجل لابن شبرمة اسألك؟
قال بن شبرمة ان كانت مسألتك لا تضحك الجلوس ولا تزري بالمسؤول فسل، وحدثنا وهيب بن خالد قال، قال اياس بن معاوية من المسائل ما لا ينبغي للسائل ان يسأل عنها، ولا للمجيب ان يجيب فيها، فان كانت مسألته من غير هذا فليسأل، وان كانت من هذا فليمسك، قال يحيى بن اكثم فهابوه فما نظر احد منهم اليه حتى قام وولاه المأمون قضاء مكة فخرج اليها.
احبائي يسعدني ان استديم احلى الكلام وانا بين السادة الانام، سألني الاخ الكريم احمد حمزة الخزاعي من مكة المكرمة صانها الله عن كل سوء ان من قال هذا المعنى الجميل "حاسب زمانك في حال تصرفه تجده اعطاك اضعاف الذي سلب"، قلت للاخ احمد الخزاعي هذا المعنى الجميل الذي ذكرته هو لابي الفضل البهاء زهير بن محمد بن علي بن يحيى العتكي الملقب ببهاء الدين الكاتب، وهو من فضلاء عصره واحسنهم نظماً ونثراً وخطاً ومن اكبرهم مروة، وكانت ولادته بمكة المكرمة سنة ٥۸۱ ووفاته بالقاهرة سنة ٦٥٦، بمرض عظيم لم يكد احد يسلم منه، وبيته المسؤول عنه ضمن ابيات هذا ترتيبها:
لا تعتب الدهر في خطب رماك به
ان استرد فقد من طال ما وهبا
حاسب زمانك في حال تصرفه
تجده اعطاك اضعاف الذي سلب
والله قد جعل الايام دائرة
فلا ترى راحة تبقى ولا تعبى
ورأس مالك وهي الروح قد سلمت
لا تأسفاً لشيء بعدها ذهبا
ما كنت اول مفدوح بحادثة
كذا مضى الدهر لا بدعاً ولا عجبا
ورب مال نما من بعد مرجأة
اما ترى الشمعة بعد القط ملتهبة
وهذا المقطع الاخير من "احلى الكلام"، سألني الاخ العزيز نجيب الموسوي من لبنان صرفه الله عن كل سوء، ان اعرفه قائل هذا البيت البديع:
تجهم العيد وانهلت بوادره
وكنت اعهد منه البشر والضحكا
قلت هذا البيت احد بيتين قالهما ابو علي الحسن بن رشيق القيرواني احد البلغاء الكبار وهو صاحب التقانيت المليحة الفائقة كالعمدة في معرفة صناعة الشعر ونقده وعيوبه، وقد ولد بالمسيلة بالجزائر لمملوك رومي من موالي الازد سنة ۳۹۰ وتوفي سنة ٤٦۳، وبيتاه المعنيان قالهما عندما غاب المعز بن باديس عن حضرته في عيد ماطر: تجهم العيد وانهلت بوادره، وكنت اعهد منه البشر والضحكا، كأنه جاء يطوي الارض من بعد شوقاً اليك، فلما لم يجدك بكى.
احبتي الكرام بهذا انهي احلى الكلام واستودعكم الله وانتم في غاية الامن والسلام.
*******