قال معاوية بن هشام لخالد بن صفوان: بم بلغ فيكم الأحنف بن قيس ما بلغ؟
قال: إن شئت حدّثتك ألفا، وإن شئت حدّثتك حذفاً.
قال: احذفه لي حذفا.
قال: وإن شئت فثلاثا، وإن شئت فاثنتين، وإن شئت فواحدة.
قال: ما الثلاث؟
قال: كان لا يشره ولا يحسد ولا يمنع حقّا.
قال: فما الثنتان؟
قال: كان موفّقاً للخير، مبعّداً عن الشّرّ.
قال: فما الواحدة؟
قال: كان أشدّ الناس على نفسه سلطانا.
ومعاوية بن هشام هذا هو حفيد عبد الملك بن مروان، وهو جدّ الأمويّين الذين سادوا في الأندلس، وتوفّي في حياة أبيه هشام بن عبد الملك سنة تسع عشرة ومئة.
أما خالد بن صفوان الذي أجابه عن سؤاله، فهو خالد بن صفوان بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم التميميّ المنقري من فصحاء العرب المشهورين بصريّ جالس الخليفتين الأمويين هشاماً الطيّب الّذكر عمر بن عبد العزيز، وله معهما أخبار، كان لفصاحته أقدر الناس على مدح الشيء، وله كلمات سائرة.
قيل له: أي إخوانك أحبّ إليك؟
فقال: الذي يغفر زللي، ويقبل عللي، ويسدّ خللي.
سألني الأخ عبد الودود الشيبانّي من دار السّلام بغداد - لازالت عصيّة على الحدثان - أن لمن هذا البيت، وفيم قيل؟
وذي أوجه لكنّه غير بائح
بسرّ وذو الوجهين للسرّ مظهر
قلت: هذا البيت لأبي محمّد عبد الله بن الخشّاب البغداديّ العالم الشهير في الأدب والنحو والتفسير والحديث والقراءات والفرائض والأنساب والحساب، وكان خطّه في نهاية الحسن، وهو قليل الشعر.
وبيته المسئول عنه هو أوّل بيتين نظمهما لغزاً في كتاب، وهما:
وذي أوجه لكنّه غير بائح
بسرّ وذو الوجهين للّسرّ مظهر
تناجيك بالأسرار أسرار وجهه
فتسمعها بالعين مادمت تنظر
وهذا المعنى مأخوذ من قول المتنبّي في ابن العميد، وهو:
فدعاك حسّدك الّرئيس وأمسكوا
ودعاك خالقك الّرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه
كالخطّ يملأ مسمعي من أبصرا
وسألتني الأخت عائشة السّعدي من الجزائر العاصمة ان لمن هذا البيت:
كلّ النّدى إلاّ نداك تكلّف
لم أرض بعدك كائنا من كانا؟
قلت: هذا البيت للشاعر البارع دعبل بن عليّ الخزاعيّ في مدح المطّلب بن عبد الله الخزاعيّ أمير مصر، وهو بين بيتين آخرين على هذه الصورة:
زمني بمطّلب سقيت زمانا
ما كنت إلا روضة وجنانا
كلّ النّدى إلاّ نداك تكلّف
لم أرض بعدك كائناً من كانا
أصلحتني بالبرّ بل أفدتني
وتركتني أتسخّط الإحسانا
وهذا معنىً مطروق تداوله الشعراء كثيراً، فمنهم من استوفاه، ومنهم من قصّر فيه.
وما ألطف قول أبي العلاء المعرّي فيه:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم
والعذب يهجر للإفراط في الحصر
*******