سألني الأخ العزيز يونس السّامرّائي أن لمن هذا القول البديع:
وإذا امرؤ مدح امرءاً لنواله
وأطال فيه فقد أراد هجاءه
قلت: هذا القول لأبي الحسن عليّ بن العبّاس الرّوميّ الشاعر الشهير الفذّ البارع في التّصوير وهو أحد بيتين فسّر ثانيهما أوّلهما، وجاء من قبيل التشبيه الضّمنيّ الجميل، وهما:
وإذا امرؤ مدح امرءاً لنواله
وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدّر فيه بعد المستقى
عند الورود لما أطال رشاءه
ومن معانيه البديعة قوله في الهجاء الرّائع:
كم يعد القرن باللقاء وكم
يكذب في وعده ويخلفه
لا يعرف القرن وجهه ويرى
قفاه من فرسخ فيعرفه
قال المؤرّخ الأديب الشاعر الناقد القاضي شمس الدّين أحمد بن خلّكان: أخذ هذا المعنى الأخير من قول خارجيّ أسير قال له المنصور: أيّ أصحابنا أشدّ إقداماً في مبارزتكم؟
فقال: ما أعرف وجوههم، ولكن أعرف أقفاءهم، فقل لهم يقبلوا، فأعرفهم.
وسألتني الّسيّدة الفاضلة فاطمة الحسنيّ من الدّار البيضاء بالمغرب أن من قال هذا البيت:
وإنّ ترفّع الوضعاء يوماً
على الرّفعاء من إحدى الرّزايا
قلت للسّيدة الكريمة: هذا البيت للقاضي عبدالوهّاب المالكيّ أبي محمّد الفقيه الأديب الشاعر البغداديّ الثّقة الحسن النّظر الجيّد العبارة الخارج إلى مصر في آخر عمره فقيراً، الميّت فيها أوّل وصوله إليها سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة عن عمر ناهز اثنتين وستين سنة. وبيته المسئول عنه من جملة أبيات ها هي ذي:
متى يصل العطاش إلى اريواء
إذا استقت البحار من الّركايا
ومن يثني الأ صاغر عن مراد
وقد جلس الأكابر في الّزوايا
وإنّ ترفّع الوضعاء يوماً
على الرّفعاء من إحدى الّرزايا
إذا استوت الأ سافل والأعالي
فقد طابت منادمة المنايا
والرّكايا جمع الركيّة، وهي البئر.
ومن يثني يعني من يصدّ.
والوضعاء جمع الوضيع، وهو ضدّ الشريف.
والرّفعاء جمع رفيع، أي: شريف.
ومن فرائد الأقوال، وروائع العذب الزّلال ما رواه الإمام اللغويّ الشّهير، الفقيه الشافعّي أبو منصور محمّد بن أحمد الأزهريّ الهرويّ المتوفّى سنة سبعين وثلاث مئة عن عمر بلغ ثماني وثمانين سنة أنّ أعرابيّاً قال: اللهمّ من ظلمني مرة، فاجزه.
ومن ظلمني مرّتين، فاجزني واجزه.
ومن ظلمني ثلاث مرّات، فاجزني ولا تجزه.
ومعنى هذا الدّعاء أنّ من ظلم إنساناً مرّة، كان هو المذنب وحده، فجزاؤه سّيئة بسيّئة.
وإذا ظلم إنساناً مرّتين استحقّ في نظر ذلك الأعرابّي أن يجزيه الله (تعالى) مرّة واحدة ويجزي ذلك المظلوم مرّة واحدة أيضاً، لأنّه لم يسع لرفع الظّلم عنه.
وإذا ظلم أحد آخر ثلاث مرّات استحقّ المظلوم وحده العقاب في نظر ذلك الأعرابّي الدّاعي، وذلك لهوانه على نفسه واستكانته لما يجري عليه من الظلم. وكتب إليّ الأخ عادل خليفة من غزّة الباسلة يسأل عن قائل هذا البيت:
أشتاقكم وبودّي لو يواصلني
لكم خيال ولكن لست أغتمض
قلت: هذا البيت من أبيات للفقيه الشافعيّ المتعصّب لمذهبه ابن أبي الصّقر الواسطيّ وهو أبو الحسن محمّد بن عليّ بن عمر، وكان كاملاً في البلاغة والفضل وحسن الخطّ وجودة الشّعر وتوفّي عن زهاء تسع وثمانين سنة، وذلك سنة ثمان وتسعين وأربع مئة. وهذه هي أبياته والبيت المسئول عنه:
وحرمة الودّ مالي عنكم عوض
لأنّني ليس لي في غيركم غرض
اشتاقكم وبودّي لو يواصلني
لكم خيال ولكن لست إغتمض
وقد شرطت على قوم صحبتهم
بأنّ قلبي لكم من دونهم ورضوا
ومن حديثي بكم قالوا به مرض
فقلت لا زال عنّي ذلك المرض
وقوله: لازال عنّي ذلك المرض هو جملة دعاء، وهذا هو الاستعمال الصّحيح للفعل زال فمتى اقترن بلا كان للدّعاء، ومتى اقترن بما كان للخبر.
*******