سألني الاستاذ الشيخ المغترب مثلي سلمان الكاظم: فيم قيل هذا البيت الجميل؟
ومن قائله؟
تقاسما العيش صفواً والرد كدراً
وما عهدنا المنايا قط تقتسم
قلت لمسائلي الكريم (حفظه الله): هذا البيت احد بيتين قيلا في شابين كانا بمدينة آمد اعظم مدن ديار بكر بينهما مودة عميقة، واخوة وثيقة.
واتفق ان ركب احدهما خارج البلد، وطرد فرسه فتقنطر، فمات من ساعته، وعلم الآخر، فقعد يشرب، فشرق، فمات في ذلك النهار ايضاً.
فعمل فيهما الفقيه ابو علي الحسن بن احمد المعلم المعرّي:
تقاسما العيش صفواً والردى كدراً
وما عهدنا المنايا قط تقتسم
وحافظا الودّ حتّى في حمامهما
وقلما في المنايا تحفظ الذمم
وبلغ الخبر والبيتان الخطيب الحصكفي، وهو ابوالفضل يحيى بن سلامة بن الحسين الشاعر الخطيب الاديب المتوفى سنة احدى، او ثلاث وخمسين وخمس مئة عن ثلاث وتسعين سنة فقال:
قصر هذا الشاعر، اذ لم يذكر سبب وفاتهما، وقد قلت فيهما:
بنفسي اخيان من آمد
اصيبا بيوم مشوم عبوس
دهى ذا كميت من الصافنات
وهذا كميت من الخندريس
قلت: ودهاه يدهاه دهياً بمعنى اصابه.
قال القاضي الاديب الشاعر الناقد المؤرّخ البارع شمس الدين احمد بن خلكان الاربكي المتوفى سنة احدى وثمانين وست مئة (رحمه الله)، ولو قال:
دهى ذا كميت من الصافنات
وهذا كميت من الصافيات
لكان احسن لأجل المجانسة، وكان يجعل البيت الاول:
بنفسي اخيّان من آمد
اصيبا بيوم شديد الاذاة
او ما يناسب هذا.
قلت - أنا الجزائري -: وما ذهب اليه ابن خلكان هو الجمال والكمال.
وقلت ايضاً: والخندريس هي الخمر القديمة.
والكميت من الصافنات - وهي الخيل- هو ما ليس بأشقر، ولا أدهم.
وهو من الخمر ما فيها حمرة وسواد.
وكتب الي الاخ ابو تميم المرزوقي من قطر - قطرها الله تعالى لكل خير- ان من القائل؟
فقلت له ان الشجا يبعث الشجا
فد عني فهذا كله قبر مالك
قلت للأخ ابي تميم: هذا البيت من ثلاثة - ابيات كافية في باب المراثي من كتاب الحماسة لأبي تمام وهن الحماسية الخامسة والستون والمئتان في شرح المرزوقي، وهن من البحر الطويل.
وهن لمتمم بن نويرة اليربوعي صاحب المراثي الرائعة الذائعة في اخيه مالك المضروب به المثل فتيً ولا كمالك، وكان سرّياً نبيلاً فارساً شاعراً مطاعاً في قومه قتله خالد بن الوليد غدراً، بدعوى الردة، وتزوج امرأته من حين قتله، وكانت في غاية الجمال موصوفة به، حتى ان مالكاً قال لخالد ساعة امر بضرب عنقه: هذه التي قتلتني. والأبيات:
لقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال اتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له ان الشجا يبعث الشجا
فدعني فهذا كله قبر مالك
ومن رثاء متمم في اخيه مالك قصيدة عينية بديعة طويلة منها قوله:
وكنا كند ماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا
اصلب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وجذيمة هذا المذكور آنفاً هو ابو مالك بن مالك الازدي صاحب الحيرة وما والاها، وهو الابرش والوضاح، قيل له ذالك، لأنه كان ابرص، وقد هابت العرب نسبته الى البرص فعرف بأحد الوصفين المتقدمين، وهو الابرش.
وكان لاخته رقاش ابن يدعى عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة اللخمي احبه جذيمة حباً جماً، وقد استهوته الجن، وبقي زماناً يتطلبه، فلم يجده.
واقبل عليه اخوان هما مالك وعقيل ابنا فارح بن مالك بن كعب بابن اخته وقد وجداه في البر اشعث الرأس، طويل الاظفار، سيء الحال، فعرفاه، واصلحا حاله، وحملاه اليه.
فقال لهما جذيمة من فرط سروره بعودة ابن اخته، احتكما علي.
فقالا: منادمتك ما بقيت وبقينا.
فقال: ذلك لكما.
فهما نديماه اللذان يضرب بهما المثل، ويقال: انهما نادماه اربعين سنة لم يعيدا عليه فيها حديثا حدثاه به.
اقول: وهذه اللطافة الفائقة، والظرافة الرائقة.
واياهما عنى ابو خراش الهذلي بقوله في مرثية اخيه عروة:
تقول أراه بعد عروة لاهيا
وذلك رزء لو علمت جليل
فلا تحسبي اني تناسيت عهده
ولكن صبري يا اميم جميل
ألم تعلمي ان قد تفرق قبلنا
نديما صفاء مالك وعقيل
وهتف الي الاخ موسى الصافي من السويد قائلاً: سرّني بما تحفظ من شعر اللغوي الثبت المعلم الشهيد ابي يوسف يعقوب بن ابي اسحاق المعروف بابن السكيت فخر البغداديين المستشهد على يد المتوكل عن ثمان وخمسين سنة، وذلك سنة اربع واربعين ومئتين لولائه لأهل البيت (عليهم السّلام).
قلت في جواب الأخ الصافي - اعزّه الله -: كلف المتوكل ابن السكيت (رحمه الله) تأديب ولده المعتز، فلما قعد عنده اول مرة سأله: بم يحب الامير ان نبدأ؟
فقال المعتز: بالانصراف.
قال يعقوب: فأقوم؟
قال المعتز: فأنا أخف نهوضاً منك.
وقام، فاستعجل، فعثر بسراويله، فسقط، والتفت الى يعقوب وقد احمر وجهه خجلاً، فقال يعقوب:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه
وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه
وعثرته بالرجل تبرأ في مهل
فلما كان من الغد دخل يعقوب على المتوكل، فأمر له بخمسين ألف درهم، وقال له: قد بلغني البيتان.
قال ابن خلكان: وكان لابن السكيت شعر، وهو مما تثق به النفس، ومنه قوله:
اذا اشتملت على اليأس القلوب
وضاق لما به الصدر الرحيب
ولم تر لانكشاف الضرّ وجهاً
ولا اغنى بحيلته الاريب
اتاك على قنوط منك غوث
يمنّ به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات اذا تناهت
فموصول بها فرج قريب
وانت اذ تسمع هذا القول لابن السكيت (رحمه الله) تسمع الثقة التامة بالله - تبارك وتعالى- والتسليم الصادق له - عزّ اسمه.
ومن بديع شعره هذه الحكمة الساطعة:
نفسي تروم اموراً لست مدركها
ما دمت احذر ما يأتي به القدر
ليس ارتحالك في كسب الغنى سفراً
لكن مقامك في ضرّ هو السفر
ومن نثره الذي يفوق الشعر ما كتبه الى صديق له، ونصه: قد عرضت لي قبلك حاجة، فان نجحت، فالفاني منها حظّي، والباقي حظّك.
وان تعذرت، فالخير مظنون بك، والعذر مقدّم لك، والسّلام.
*******