دراسات مقارنة بين الادب الفارسي والآداب الاخرىيكتبها ويشرف على تقديمها، الدكتور عباس بورعباسي، استاذ الادب العربي والخبير باللغة الفارسية.برنامج في الحلقات، يسلط الضور على ملقى الاداب الفارسي والاداب الاخرى.موضوع (عنوان) هذه الحلقة:(تطور اللغة الفارسية في ضوء التأثير والتأثر)تحدثنا في الحلقة الماضية من هذا البرنامج حول اللغة الفارسية في ضوء التطورات التاريخية، فوجدناها في الحقب التي سبقت الاسلام، تارة تظهر بثياب قشيبة من الخطوط القالمية وفقاً للظروف السياسية وبسطة نفوذ الايرانيين في الشرق الأوسط وسائر الاصقاع التي كانوا يسيطرون عليها وتارةً تظهر بلباسها الفارسي الأصيل.وها نحن في هذه الحلقة نعالج تطوراتها في العصر الاسلامي مشيرين إلى جذورها التاريخية.اللغة الفارسية فرع من فصيلة اللغات (الهندو ـ أروبية) وتتحدر تاريخياً في ثلاثة أقسام.أولاً: الفارسية القديمة التي كانت في العهد الهخامنشي في القرن السادس قبل الميلاد. ولم يبق منها الّا نقوش حجرية. ومنها اللغة (الاسبطائية) او (الأفستائية) وهي لغة دين (زرادشت) الذي كان يعيش بين القرن السادس او السابع قبل الميلاد تقريباً. واللغة الافستائية معظمها أنساك دينية وأدعية موزونة أشهرها (الغاثاهات) وقد نتحدث عنها في محطة الشعر.ثانياً: الفارسية الوسطى (فارسي ميانة) وهي تنقسم إلى مرحلتين:۱ـ المرحلة الاولى، اللغة الفهلوية الاشكانية، التي عاشت في عهد السلالة الاشكانية مدى خمسة قرون (من القرن الثالث قبل الميلاد حتى نهاية القرن الثاني بعد الميلاد) وما وصل إلينا منها، بعض المسكوكات بالخط الفهلوي وعهدان كتبا على جلد الغزال أحدهما باللغة اليونانية التي بقيت من عهد اسكندر وخلفائه (السلوكيين) والعهد الثاني كتب بالخط الفهلوي المشتق من الخط الآرامي. (۱) كما وصلنا نص قصصي صغير فيه وزن من الشعر اسمه (الشجرة الاسورية) وهو حوار بين النخلة والوعل.۲ـ المرحلة الثانية، اللغة الفهلوتة الساسانية، وكانت في عهد الحكم الساساني (في اوائل القرن الثالث الميلادي حتى سنة ستمائة وإحدى وخمسين ميلادي) وقد وصلنا منها نقوش حجرية مسكوكات وخواتم ونقوش على الاواني، أما الكتب والرسائل الكثيرة يمكن أن يكون بعضها قد كتب في العهد الساساني، لكن الظاهر يبدو أنها دونت كلها بعد الاسلام. ومن هذه الكتب، كتاب (دين كرت) وهو كتاب ديني في تسعة مجلات وقد استمرمت الفهلوية وفي النواحي الشرقية والشمالية من ايران حتى القرن السادس الهجري.ثالثاـ ألفارسية الحديثة: وهي المعروفة بالفارسية الدرية (بعد الاسلام) اي، (لغة البلاط) او برواية أخرى (صوت حمامة الوادي) والدرة بالفارسية هي الوادي، وهذه اللغة، هي التي تحولت ألى اللغة الفارسية المعاصرة.إن اللغة الدرية لم تقطع الصلة مع إرومتها الفهلوئة وهذا ما أكده الدكتور خانلري في كتابه (تاريخ اللغة الفارسية) ووافقه عليه الدكتور ذبيح الله صفا في كتابه الضخيم، (تاريخ الادب الفارسي).إذ يقول خانلري (إن اللغة الفارسية الدرية (الحديثة) صورة متطورة) من إحدى اللهجات الفارسية الموازية للغة الفهلوية التي بقيت منتشرة في أنحاء ايران الشرقية والشمالية ولاسيما المناطق التي اعتنقت الاسلام طوعاً دون حرب والتي بقي حكامها من اهلها الايرانيين فلم تتأثر باللغة العربية كسائر المناطق حتى القرن الثاني في الهجري).(۲)المناقشة (الاسئلة)والان وبعد أن ذكرنا مراحل اللغة الفارسية وأقسامها، ننتقل واياكم مستمعينا الكرام إلى لقاء الحلقة، ومعنا، الدكتور عباس العباسي خبير البرنامج لنناقش معه بعض جوانب تتطور اللغة الفارسية. (تحية)
سؤال: متى وكيف تطورت اللغة الفارسية الحديثة لتصل إلى ما هي عليه الآن؟
جواب: أقدم صورة وصلنا من اللغة الفارسية الدرية بعد الاسلام، يرجع تاريخها إلى اواسط القرن الرابع الهجري، في العهد الساماني، وذلك بجهد من الايرانيين الذين كانوا متحمسين للغتهم الوطنية وبتشجيع من الامراء السامانيين الذين حثوا على إحياء اللغة الفارسية، أما العوامل التي مكنت الفارسية من الوصل الى مكانتها المرموقة في ذلك الوقت وهي الترجمة من العربية إلى الفارسية، فبفضل ترجمة القرآن الكريم والنصوص الدينية الاسلامية والادبية، التي كانت ـ ولا تزال ـ تتناول الشؤون السياسية والمدنية، حصل تطور واسع في شكل النثر الفارسي، وكان الايرانيون على غير معرفة باللغة العربية في عهدهم الاول من الاسلام وكانوا يقرأون القران الكريم باللغة الفارسية.يقول المؤرخ الفارسي (جعفر النرشخي) في كتابه (تاريخ بخارى) وهو باللغة العربية، والذي ترجمه (محمد بن زفر) بلغة فارسية سائغة سهلة: (ان اهل بخارى في اول العهد بالاسلام كانوا يقرأون القرآن الكريم في ترجمته الفارسية). (۳)كما يذكر الجاحظ (في كتابه) البيان والتبيين؟ أنه رأى شيخاً مفسراً للقران الكريم، اعجوبة اسمه (موسى بن سيار الأسواري) وكان بارعاً باللغتين الفارسية والعربية. وكان يجلس في المجلس وعلى يمينه جماعة من العرب وعلى شماله جماعة من الايرانيين، فيشرح الآية بعد قراءتها تارة باللغة العربية وتارة باللغة الفارسية (٤) باسلوبين متقاربين في دقة البيان والتعبير. (٤)إذن للترجمة من العربية إلى الفارسية التي كانت قد بدأت حياتها الجديدة وفقاً للتطورات التي جرت في العالم الاسلامي في القرون الاولى وما جرى على اللغة الفارسية من تغييرات في الخط واللفظ وحتى في صور التعبير،تأثير بارز وملموس.
سؤال: هل من الممكن الاشارة إلى هذا الأخذ والعطاء بايجاز؟
جواب: لا حظنا، من خلال الترجمة من العربية إلى الفارسية، أن النثر الفارسي، فتح الابواب على مصراعيها ليحتوي العلوم والمصطلحات والاراء الحديثة التي دخلت عليه، إذ كانت تتطلب من اللغة الفارسية سعة صدر اكثر من ذي قبل، ولهذا أخذت اللغة الفارسية تتفجر وتتسع، لتعطي مجالاً للتعبير عن هذه العلوم والآراء والمصطلحات، سواء على صعيد اللفظ أو المعنى (المحتوى).ولم ينته دور الترجمة في التأثير والتأثر، إذ أنه عندما عني العرب بجنس التاريخ عناية بالغة، تطور النثر العربي واصبح نثراً فنيا غلب عليه السجع وكثرت فيه الشواهد والامثال، والبديع حينذاك سرى نفس الروح في المؤرخين فاصبح النثر التاريخي وكأنه نوع من الشعرالمنثور.فهذا ابونصر عبد الجبار العتبي يقول في كتابه ( تاريخ يمين الدولة) أنه سلك في كتابه مسلك الشعراء في تخليد مآثر السلطان محمود الغزنوي.وعندما ترجم (الجرفاذقاني) (تاريخ يمين الدولة) إلى الفارسية نقل جنس التاريخ من العربية إلى الفارسية بكل خصائصه الفنية من التصنيع، والتكلف والتسحيح والبديع وبهذا دخل هذا التكلف والتعقيد الفني من النثر العربي إلى النثر الفارسي، وقد تمثل هذا الاسلوب الشائك في كتاب (تاريخ الوصاف) على يد كاتبه وصاف الحضرة. (٦)
سؤال: نتيجة لهذه الموثرات التي اشرتم اليها وكذلك التطورات الداخلية التي طرأت على المجتمع واللغة الفارسية، متى اصبح للغة الفارسية اسلوب نثري ذو طابع معين ومستقل؟
جواب: يعتبر نثر تاريخ ابي محمد البلعمي المعروف بـ(تاريخ البلعمي) وهو ترجمة حرة من تاريخ الطبري وبتصرف واقتباس إلى اللغة الفارسية، نثراً فارسياً سهلاً خالياً من التكلف والتصنيع، كما يعتقد الدكتور ذبيح الله صفا في تاريخ الادب الفارسي (إن هذه الترجمة تعتبر من امهات النثر الفارسي) (٥) وبهذه الترجمة الخالية من التعقيد والتي نرى نسبة الالفاظ العربية فيها ضئيلة تتراوح بين ثلاث ـ إلى خمس عشرة في المائة يكون قد تحقق للعة الفارسية إسلوب نثري أدبي.كما ظهر النثر الفني الفارسي في ترجمة أبي المعالي نصرالله (٥٥٥ هـ) لكتاب (كليلة ودمنة) من اللغة العربية، وكان عبدالله بن المقفع قد ترجم هذا الكتاب الوزين من اللغة الفهلوية إلى اللغة العربية كما قد ترجم كتابي (الادب الكبير والادب الصغير من الفهلوية إلى العربية أيضاً.وفي عملية النقل والترجمة هذه من الفهلوية وما تحتوي عليه آثارها من حكم الفرس ونصائحهم وحكاياتهم وسير ملوكهم، تأثر النثر العربي أيما تأثير في محتواه واسلوب تعبيره. وهكذا بدأت عملية التأثير والتأثر، في المبنى (القالب) والمعنى (المحتوى).
سؤال: فضلاً عن هذا التعقيد الفني في النثر الفارسي، فقد حصلت ـ كما نعلم ـ أحداث خطيرة في ايران، كهجوم المغول واستمرار سيطرتهم على ايران، ومن ثم هجوم تيمورلنك، ثم مجئ سلالات غير فارسية، مما جعل ايران ترزح تحت نير هذه الجماعات المهاجمة اكثر من ثلاثة قرون. فكيف استطاعت اللغة الفارسية أن تتحلص من كل ما طرأ عليها لتصل إلى ما هي عليه اليوم من الرواء والسلاسة وسلامة البنية؟
جواب: حقاً إنه ليبدو أمراً شاقاً أن تخرج لغة أئمة من هذه الخضم وهذه الاحداث الكبرى، سليمة، قويمة معافاة، لكن اللغة الفارسية تمتلك ديناميكية فعالة تساعدها على التخلص من الشوائب الدخيلة عليها كلما رفعت عنها هيمنة الأجانب. نعم لقد دخلت اللغة الفارسية، مفردات ومصطلحات مغولية وتركية واوزبكية، لاسيما فيما يخص الجيش والسلاح والمراتب العسكرية، لكنك اليوم لا تجد في ديوان حافظ الشيرازي، إلا بعض المفردات المغولية. حتى المفردات والمصطلحات التركية التي دخلت اواسط القران الثاني عشر الهجريين، قد انقرضت بانقراض سلالة الصفويين وما بقي من آثارها قضي عليه في العصر القاجاري اما التعقيد الفني الذي دخل الفارسية من العربية فقد زال مرّّ الزمن وهذا تطور يحدث في جميع اللغات.
*******