برنامج في حلقات يسلط الضوء على ملتقى الادب الفارسي والاداب العالمية الاخرى ولاسيما الادب العربي الذي جمعته مع الادب الفارسي ظروف بيئية وتاريخية ودينية وشيجة.
و موضوع هذه الحلقة اللغة الفارسية والتطورات التأريخية.
اللغة الفارسية: هي إحدى اللغات العالمية الحية غذتها الحضارة الفارسية القديمة، واثرتها الحضارة الاسلامية المجيدة وقد مثلث أدبها، شخصيات علمية أدبية فذة، أمثال العالم الحكيم ابي القاسم الفردوسي في شاهنامته، والعالم الحكيم عمر الخيام في رباعياته، ومولانا جلال الدين المولوي في غزله ومثنوياته والشيخ السعدي الشيرازي في مقاماته وحكمه وروضته (كلستان) وبستانه (بوستان)، والعارف الكبير الحافظ الشيرازي في بديع غزله وعرفانياته.
ان اللغة الفارسية بشتى فروعها وفي مختلف العصور، مرت بمنعطفات تاريخية مختلفة والتقت بلغات عالمية ذات جذور عمقية ولابد من الاشارة اليها عبر هذه المسيرة التي امتدت اكثر من خمسة الاف سنة مروراً بالسلالات الفارسية الكبرى التي بسطت يد سلطانها على الشرق الاوسط ومساحات من آسيا الشمالية واوروبا وشبه القارة الهندية، وما التقت به من اقوام مختلفة وحضارات عريقة، وصولاً الى المنعطف التاريخي العظيم الذي غير وجه التاريخ ألا وهو الاسلام المجيد، وما أخذ من الحضارة الفارسية المشرقة وما أضاف اليها والى اللغة الفارسية من البلاغة والجلال الجمال والروعة.
كما سيكون لنا )أن شاءالله( أكثر من موقف مع اللغة الفارسية وأختها العربية - بالسبب لا بالنسب طبعاً - عبر العصور الاسلامية المختلفة حتى يومنا هذا.
وعودة على بدء نرى من الجدير أن نستعرض مشاهد من ذلك التاريخ الطويل الذي خاضته اللغة الفارسية متفاعلة مع اللغات المتعايشة معها أو المتاخمة لها آنذاك.
ففي هذه الرحلة القصيرة نمرّ على الشرق الاوسط لنرى البصمات التي خلفتها ورائها تلك الحضارات القديمة.
فهذه منطقة الشوش الواقعة غرب ايران وقد تبادلتها أيدي القوى الجبارة القديمة فمن العيلاميين في الألفية الرابعة قبل الميلاد، الى الأكديين في الالفية الثالثة قبل الميلاد إلى السومريين في منتصف الألفية الثالثة ق.م، الى الآشوريين ثم مجيء الآريين من سلالة ألماد الفارسية التي فرضت هيمنتها على المنطقة في سنة ثمانمائة وتسع وعشرين ق.م.
ثم جاءت السلالة الاخمينية الهخامنشية الفارسية الكبرى، فاكتسحت منطقة الشوش وأخرجتها من الآشوريين سنة ۷۰۰ (سبعمائة ق.م).
ثم راحت تبسط يد سلطانها على كل منطقة ما بين النهرين ثم انطلق قمبيز (كمبوجية) فاحتل مصر وتابع داريوش ثم خشايارشا تلك الفتوحات، وكانت الشام ايضاً قد اصبحت من جملة متصرفات الهخامنشيين.
اما اليونان فقد احتلها (خشايارشا) سنة (اربعمائة وثمانين ق.م) فأحرق قصور أثينة المعروفة بـ (اكروبوليس) مما جعل اسكندر المقدوني يحتل ايران فيحرق قصر جمشيد في شيراز، وذلك سنة ۳۳۰ ق.م. (۱)
وعبر هذه الرحلة الطويلة التي قطعتها اللغة الفارسية التقت بلغات وخطوط مختلفة من سامية وغير سامية، كالخط الفنيقي الذي نشأت منه خطوط عالمية كالخط اليوناني والخط الآرامي.
وكان هذا الاخير قد اتخذه الآراميون الذين سكنوا ما بين النهرين حوالي الالفية الثانية قبل الميلاد، خطّاً للغتهم التي لم يكن لها خط معروف. وكان الآراميون اهل تجارة فجاءت لغتهم سهلة مبسطة، كما جاء الخط الآرامي لديهم سهلاً بسيطاً بعيداً عن الصعوبة التعقيد، و قد يكون هذا هو السر الذي جعل الخط ينتشر بسرعة على مساحات شاسعة من الارض حتى أنك تستطيع أن تجد نمادج من هذا الخط - اي الآرامي - في الهند وصقلية.
وعندما احتل الهخامنشيون مناطق الفرات التي كان الآراميون يقطنونها، وكذلك بعد أن فرضوا سيطرتهم على جميع نواحي سوريا وفلسطين ومصر، كان الخط الآرامي، هو الخط الرسمي في جميع هذه البقاع، فاتخذه الهخامنشيون خطاً رسمياً لهم في بلاطاتهم لكن الايرانيين كانوا يتكلمون اللغة الفارسية القديمة.
على أن سهولة الخط الآرامي وسرعة انتشاره جعلتاه يصبح منشأً للغات وخطوط كثيرة لاتزال حية حتى اليوم، وهي الخط العبري، والخط السرياني، والخط التدمري، والخط النبطي الذي تطور منه الخط العربي، والخط الكوفي، وخط النسخ، ومنه الخط الفارسي الدري والمعاصر.(۲)
ولهذا نرى ما وجد من نقوش من العصر الهخامنشي في (ترعة السويس) وسائر مناطق ايران الأثرية، قد كتب معظمها بثلاث لغات هي الفارسية القديمة والآشورية والآرامية، وبعضها كنت بالغة الفارسية القديمة فقط.
أما ما وصلنا من آثار مكتوبة بعد العصر الهخامنشي حتى العصر الاسلامي، فقد كتب باللغة الفهلوية الايرانية.
مستمعينا الاكارم، والآن وبعد أن استمعتم إلى هذه المقدمة حول الغة الفارسية ورحلتها الطويلة، ننتقل بكم إلى لقاء البرنامج.
ومعنا الآن في الاستوديو خبير البرنامج، الدكتور عباس العباسي استاذ الادب العربي، والخبير باللغة الفارسية، لنناقش معه ما نستطيع من الجوانب العالمية للغة و كيفية معالجتها.
سؤال: أهلاً و سهلاً بكم دكتور في لقاءنا الاول معكم بعد أن اتضح لمستمعينا الكرام، أن البرنامج يهدف إلى القاء الضوء على الجوانب المشتركة بين اللغة الفارسية وآدابها والآداب الاخرى، هل لكم أن تعطونا صورة ملخصة عن الادب المقارن وتطوره؟
جواب: وأنا بدوري أحييكم، واحيي أسرة البرنامج وأحيي المستمعين الكرام، فأهلاً وسهلاً بكم جميعاً.
الادب المقارِن او المقارَن، (يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة وصلاتها الكثيرة المعقدة، في حاضرها أو في ماضيها وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير سواء كانت تتعلق بالاصول الفنية العامة للأجناس (للأنواع) او المذاهب الأدبية والتيارات الفكرية في الادب المختلفة. والحد الفاصل بين تلك الاداب، هي اللغات، فلابد للمقارنة أن تقوم بين لغتين مختلفتين فالكاتب او الشاعر إذا كتب كلاهما بلغة واحدة اعتبرنا أدبهما واحداً مهما كان جنسهما البشري الذي انحدرا منه.
فإذا ما اقيمت دراسة على ذلك الاثر الذي اشترك افيه متأثرين ببعضهما وبالجوانب التي تخص ذلك الاثر، اعتبرنا تلك الدراسة (موازنة) لا مقارنة كما لو أجري البحث حول شرح السودي التركي، وشرح على الدشتي حول شعر حافظ الشيرازي الفارسي. فتلك تصبح موازنة.
سؤال: متى نشأ الادب المقارن و إلى أي حد يمكن هذا الأخذ و العطاء بين الأدباء؟
جواب: لقد ظهرت في القرن السادس عشر للميلاد في اوروبا نظرية تدعى، نظرية (المحاكاة) واعتبرت مسلكاً عملياً مثمراً، وكان الناقد الفرنسي (دي بلي) يقول: (بدون محاكاة اليونانيين والرومانيين لن نستطيع أن نمنح لغتنا ما اشتهر به الأقدمون من سمو وتألق).
على أن المحاكاة - على هذا النحو - يجب ألا تمحوا أصالة الكاتب. و لهذا يرى الناقد الفرنسي (بلتيه): أن المحاكاة ليست تقليداً محضاً وإنما السير على هدي نماذج بمثابة قدوة للكاتب. فيقول بلتيه: (لا يصح أن يقع الكاتب المتطلع للكمال في زلة التقليد المحض ويجب عليه أن يطمح - لا إلى إضافة شيء من عنده فحسب - بل إلى أن يفضل نموذجه في كثير من المسائل) ثم يضيف (بلتيه): (… واي مجد السير على دربٍ ممهد مطروق؟).
هذا عن الاخذ والعطاء الذين هما من اصول الادب كما اتضح لنا، أما عن نشأة الادب المقارن وتطوره فيمكننا القول بأن أعظم ظاهرة في تأثير أدب في أدب آخر وأعظمها نتائج في القديم، ما أثر به الادب اليوناني في الادب الروماني، ففي عام (مائة وست واربعين قبل الميلاد)، انهزمت اليونان أمام روما ولكنها ما لبثت أن جعلتها تابعة لها ثقافياً وادبياً، وقد قال (هوراس) الناقد الروماني: (اتبعوا أمثلة الاغريق واعكفوا على دراستها ليلاً و نهاراً).
كما يمكننا أن نذكر نموذجاً آخر من هذا الثأثير القديم وهي أقصوصة شرقية أثرت في أحد الاجناس الادبية الفرنسية والاقصوصة اصلها فارسي وقد انتقلت قبل ذلك من الفارسية إلي العربية وهي اقاصيص الف ليلة وليلة أبطالها (خسرو أبرويز) و(شيرين) وجارية اسمها (مشكدانة) و(الموبد) وقد حاكى هذه القصة، الكاتب الفرنسي (هنري دانديلي) في النصف الاول من القرن الثالث عشر من الميلاد لكنه استبدل فيها (الاسكندر) بخسرو كما استبدل (أرسطو) بالموبد.
و من أعظم نمادج التأثير في الادب، هو تأثير القرآن الكريم والحديث الشريف على اللغتين العربية والفارسية وسائر اللغات الإسلامية. وإن كانت خطوات النقد الادبي قد بدأت في منتصف القرن السادس عشر خلال النهضة الثقافية في اوروبا، فكان على الادب المقارن أن ينتظر حتى القرن التاسع عشر ليمر بتجربتين، او بالاحرى مرحلتين هامتين هما، الحركة الرومانسية (الرومانتيكية) وهي فاتحة العصور الحديثة في الفكر والادب، ثم النهضته العلمية في القرن التاسع عشر.
ومن أشهر العلماء الذين ساهموا في نشأة الادب المقارن، (ارنست رينان) الفرنسي إذ جاء في كتابه (التأريخ العام والمنهج المقارن للغات السامية) الذي ظهر سنة الف وثمانمائة وخمس وخمسين، قال: (يمكن أن يعد الوعي الانساني نتيجةً لآلاف أخرى من الوعي تتلاقى كلها مؤتلفةً في غايةٍ واحدةٍ …)
وظهر صدى هذا الاتجاه في بحوث الكاتب الانجليزي (بورسنت) في كتابه المسمى: (الادب المقارن) الذي ظهر عام الف وثمانمائة وواحد وثمانين.(۳)
وهكذا استمر الادب المقارن يدرس الاثار الادبية كما هي في جوانبها الفنية الفكرية وفي كيفية تكونيها وفي ظروفها التاريخية والاجتماعية.
وهذا ما سنقوم به في الحلقات القادمة لنسلط الضوء على ابرز المظاهر التي التقى فيها الادب الفارسي بالاداب الأخرى ولاسيما الادب العربي الاسلامي، نتناول بالمقارنة فنون الادب نثراً وشعراً ان شاء الله تعالى.
المصادر:
۱- ايرج افشار سيستاني، خوزستان و تمدن ديرنيه آن ج ا ص - ص ۱٦۷- ۱۸۹.
۲- هينينك، سخنراني، ترجمه دكتر معين، مجله يغماش، ٦.
۳- دكتر، محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن ص ۲٥.
*******