فهو يدفع الأموال الطائلة للشعراء المرتزقين المداحين لكي ينظموا الشعر في هجاء آل علي ومن جملة أولئك منصور النمري فقد أنشد مرة قصيدة في النيل من آل علي فأمر هارون جلاوزته أن ياخذوه إلى بيت المال وأن يفسحوا له المجال ليصيبوا منه ما شاء. وقد نفى جميع العلويين الذين يسكنون بغداد إلى المدينة ، وقتل عددا كبيرا منهم أو دس له السم.
وحتى إنه كان يغاظ بشدة من إقبال الناس على زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام، ومن هنا فقد أصدر أوامر بتهديم القبر الشريف وما يحيط من بيوت مجاورة، وحتى شجرة السدر التي كانت نامية إلى جانب المزار الطاهر أمر بها فقطعت.
لا شك أن الإمام موسى الكاظم سلام الله وصلواته عليه لا يمكن أن يتفق مع سلطة مثل هذا الشخص الظالم، ومن هنا كان يبارك نهضة فخ، وذلك ايضا هو السبب في أنه كان يتصل بشيعته بصورة خفية الله يعيّن لكل فرد منهم ما يجب عليه القيام به ضد السلطة الجائرة في ذلك العصر.
وقد أُثر عنه عليه السلام قوله لصفوان بن مهران وهو من أصحابه والمقربين إليه:
"إنك جيد من جميع الجهات، سوى أنك تؤجر جمالك لهارون.
فقال صفوان: إنني أؤجرها له للسفر إلى الحج، وأنا أيضا لا أرافق تلك الجمال.
فقال الإمام (ع) : ألا تحب- لهذا السبب- أن يبقى هارون على قيد الحياة حتى العودة من مكة على أقل تقدير، لكي لا تخسر الجمال؟ ولكي يعطيك الأجرة؟
أجاب:نعم.
فقال الإمام (ع): كل من يحب بقاء الظالمين فهو يعدّ منهم."
وإذا لاحظنا الإمام الكاظم (ع) يجيز للبعض أن يتولى بعض المهام في جهاز سلطة هارون، فقد كان يرى في ذلك مصلحة من الناحية السياسية، فينتدب أشخاصا ليحتلوا بعض المناصب لينفعوا الشيعة من ناحية، وليتعرف عن طريقهم على بعض المكائد التي تحوكها الحكومة الجائرة ضد العلويين. ومثال ذلك قصة علي بن يقطين، فعندما أراد الاستقالة من منصبه في بلاط هارون فإن الإمام الكاظم (ع) لم يسمح له بذلك.
أجل إن الإمام (ع) لم يتعاون مع الظالمين لحظة واحدة، وحتى عندما كان واقعا في قبضتهم.
ففي يوم من أيام سجن الإمام (ع) ، أرسل هارون يحيى بن خالد إلى السجن ليقول للإمام موسى بن جعفر إنه إذا طلب منه العفو فسوف يطلق صراحه، لكن الإمام (ع) رفض ذلك.
ولم يتخل الإمام الكاظم (ع) عن كرامته وسلوكه الرفيع وطبعه الرافض للظلم والمساومة حتى في أحلك الظروف وأصعب اللحظات.
لاحظوا هذه الرسالة التي كتبها يوما إلى هارون من السجن فسوف تشمون منها رائحة العظمة والصمود والإيمان بالعقيدة والهدف: “… لا يمر علي يوم بالصعوبة والعسر إلا ويمر عليك بالسهولة والرفاه، فانتظر حتى ننتقل نحن الاثنين إلى يوم لا نهاية له، وفي ذلك اليوم يخسر المجرمون…”.
وكان هارون مطلعا عن طريق جواسيسه على الاتصال المستمر الخفي بين الإمام (ع) وشيعته، وكان على علم أيضا أن الإمام (ع) إذا سنحت له الفرصة فسوف يثور ضده أو يأمر أتباعه بالثورة عليه ليقوّض سلطته، وهو يلاحظ أن تلك الروح الرفيعة ليس فيها أي اثر للرضوخ والمساومة، وإذا كان الإمام (ع) واضعا يده على يد في الظاهر لفترة معينة فإن ذلك لا يعني السكوت، ولهذا فهارون يستبق الأحداث ويستخدم خداع العامة ويقف بوقاحة أمام قبر النبي (ص) ويخاطبه دون أن يستحي من غصب الخلافة واستعمال الظلم وأكل أموال الناس وتحويل الخلافة إلى الملكية قائلا: “أعتذر إليك يا رسول الله في القرار الذي اتخذته فيما يتعلق بابنك موسى ابن جعفر، فأنا لا أود في أعماقي أن أسجنه، لكنّي أفعل ذلك خوفا من وقوع الحرب بين أمتك فتراق دماء بريئة!!”.
وعندئذ يأمر بإلقاء القبض على الإمام (ع) وهو مشغول بالصلاة إلى جانب قبر النبي الأكرم (ص)، فينقل إلى البصرة ليسجن فيها.
وقضى الإمام (ع) سنة كاملة في سجن والي البصرة عيسى بن جعفر، وقد أثرت خصال الإمام (ع) الكريمة في عيسى بن جعفر تأثيرا عميقا بحيث دفعته إلى أن يكتب كتابا إلى هارون ويقول فيه: أرجو أن تنقله مني إلى مكان آخر وإلا فإنني سوف أطلق سراحه.
فأمر هارون بنقل الإمام (ع) إلى بغداد وسجن عند الفضل بن الربيع، ثم نقل بعد فترة إلى سجن الفضل بن يحيى وفي النهاية أودع في سجن السندي بن شاهك.
والسبب في هذه التنقلات المتعاقبة هو أن هارون كلما طلب من المشرفين على سجن الإمام (ع) أن يقضوا عليه فإنهم كانوا يمتنعون عن هذه الجريمة الشنيعة، حتى انتهى الدور إلى هذا السجان الأخير الساقط وهو السندي بن شاهك، فدس السم للإمام (ع) بإيعاز من هارون، وبعد أن قضى الإمام مسموما أحضر مجموعة من الشخصيات المعروفة حتى يشهدوا أن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) مات في السجن بصورة طبيعية وما اغتاله أحد. وحاول هارون بهذه الحيلة أن يبرىء ساحة السلطة العباسية من قتل ذلك الإمام الجليل، وفي نفس الوقت ليحول دون الثورة المتوقعة من قبل المحبّين للامام الكاظم (ع).
إلا أن حنكة الإمام (ع) وعظمته قد فضحت هؤلاء وأخزتهم، لأنه بمجرد أن حضر الشهود ونظروا إليه فإن الإمام الكاظم (ع) بادرهم بالقول وهو على تلك الحال السيئة من الضعف لشدة التسمم: "لقد سمّني هؤلاء بتسع تمرات، ولهذا فسوف يخضرّ بدني غدا وسوف أفارق الدنيا بعد غد".
وقد تحقق بعد ذلك نفس ما تنبأ به الإمام موسى الكاظم (ع).
وبعد يومين- أي في الخامس والعشرين من شهر رجب 183هـ.ق- حزنت السماء والارض ونُكب أهل الإيمان ولاسيما الشيعة بفقدان قائدهم الحقيقي وإمامهم الحبيب.
المصدر: الإمام السابع، الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) – بتصرّف