السلام عليكم احباءنا ورحمة الله وبركاته اهلاً بكم في لقاء آخر من لقاءات هذا البرنامج، نستهله بالاشارة الى ان كثيراً من المتوسلين يطلبون الشفاء من امراض بدنية يأسوا من امكانية النجاة منها بغير التوسل بأولياء الله وبين المتوسلين من يطلبون الشفاء من امراض قلبية، والنجاة منها يفتح آفاقاً من العافية تنفي كل صعاب البدن.
عنوان قصة هذا اللقاء هو:
قصة الدواء (القسم الاول)
هذه هي دور «عقد النصارى» قابلته لما عبر، في الضحى، من آخر زقاق في محلة «قنبر علي».
ما سبق له ان وطئت قدماه الدرب المرصوف بالحجارة في هذا العقد الذي يلتوي ويلتف كأنه ثعبان كبير راقد بين البيوت. ما عساه يصنع؟! لابد ان يمضي اليه، يقصده في داره، فانه ما جاء هذه الجيئة الثقيلة على قلبه الا ليلتقي به.
قيل له ان داره في هذا العقد، وها هو قد جاء على رغمه اليه. هو الذي اوقع نفسه في هذه البلية. ما خطر له يوماً ان يضع قدمه في زقاق النصاري الذي تنبعث منه رائحة غريبة، لم يدرك منها سوى انها رائحة دنسة.. لا يليق به ان يدخل في هوائها الوخم الوبييء. شيء مخمر تنبعث منه حموضة معتقة تصدم الأنف. زهومة لحم مجفف تختلط برائحة ثوم.
تذكر عندها، وهو يجتاز ابواب النصاري المشرعة، الشذا الرقيق العطر الذي كان يلامس فؤاده في بعض ليالي التعبد، وعند بكائه المتفجع على مآسي سيد الشهداء الحزينة الدامية في كربلاء... فعصد آهة مكتومة ودمعت عيناه.
شذا افتقده منذ زمان. دفعة واحدة افتقده، كأنه قارورة انكسرت في لحظة... فضاع منه كل شيء. لا كان ذل اليوم النكد، ولا كانت تلك الـ...! لقد اورثته كرباً وندماً لم يجد الى الخلاص منه من سبيل. ليته لم يذهب في ذلك اليوم! ليت بصره لم يفلت منه فاوقعه هذه الوقعة من علو على قذر الحضيض ! ألا ليته قد عميت منه قبل تلك اللحظة العينان!
خطا بأقدام متعثرة، في عقد النصاري، خطوات. احس بالعرق تندي به جبهته.. فمسح حبات العرق بكم قميصه الابيض، وواصل المسير.
مرت به صبايا يرتدين اثواباً قصيرة، بلا أكمام. كن يتراكضن متضاحكات، وهن يتراشقن بقشور البطيخ. وحضرت في ذهنه صورة ابنته البكر «زهراء». هي في مثل اعمارهن. في العاشرة او الحادية عشرة. تذكر المقنعة الرمادية اللون التي اشتراها لها في يوم احتفالهم بادراكها سن التكليف. وتذكر الساعة اليدوية الصغيرة التي اهداها اياها في ذلك اليوم. وهمس في سره: ما الذي ستقوله لزهراء لو رأتك في هذا الدرب الذي يقطر عرياً ونجاسة؟! ما الذي جاء بك؟!
لم يستطع الا ان يجييء. الأمر واضحاً لا يحتمل التأويل.عليه أن يمضي اليه ليلقاه، حتى لو كلفه مجيئه ان يراق منه ماء الوجه. دم قلبه، واريق.. فما قيمة ماء الوجه يراق؟! لقد اهتز لمرآها من الداخل.
صورتها بشعرها المنسدل على الكتفين ناشبة في خياله، كما نشب في شغاف قلبه هذا الحب الذي اضطرم قوياً عنيفاً على حين غفلة منه. لا يدري من أين جاء، ولا من اي المداخل غزا منه اعماق الفؤاد.
كلما جهد ان يتخلص منه لم يقدر. استعاذ بالله مرات ومرات. لطم وجهه، ادانةً لنفسه، مرات ومرات. كيف تغلغل في قلبه حب امرأة ما كان يفكر ابداً ان يتكلم معها اكثر من كلمتين أو ثلاث كلمات؟! ما كان يتحدث معها الا ما تقتضيه ضرورة سؤالها، من وراء الباب، عما يلزمهم للبيت من السوق... ليأتي به اليهم في غياب زوجها محمود. محمود صديقه واخيه في الدنيا... وعشق هو زوجة محمود! عفيفة هي، طاهرة الذيل... لا تخرج حتى الى السوق. أوصاه محمود برعاية زوجته واطفاله قبل أن يشد رحاله لسفر الحج. ثقة منه بالغة ان أستودعه عياله يدبر امور معاشهم في ايام سفره... لكنه لمحها في لحظة، فتعلق بها من القلب.
في ذلك اليوم... كان قد توجه الى دارهم، كعادته، يسأل عما ينبغي ان يحضر لهم اذا عاد من السوق. لعل احد اطفالها قد فتح الباب ولم يغلقه.
ولعلها لم تفطن الى الباب المفتوح على الطريق. ولما وصل الى الدار، سبقت منه نظرة الى الداخل.. فرآها! ليته ما رأها! ارتبك كثيراً، وشعر بجسده كله يتعرق ويضطرب. ومن وقتها اصطلى بنار هذا الحب المحير الغريب.
بكي في صلاته... يتضرع الى الله ان ينقذه من هذا الوجد الآثم الذي لا يعرف له اي تفسير. أيامه تمر كنبتة بيد الرياح، تهتز باشواق خائفة وقلق تواق. وارتحل عنه، مذ عاينها، طعم السكينة وتجافت عنه حلاوة الاستقرار.
ما اسواً ما فعل! كان عليه اذ رأى الباب مفتوحاً ان يصون بصره ويغض الطرف حياء ونزاهة... لا ان يلج بعينه في حريم الدار، فيفاجئه السهم يصيب قلبه ولا يخرج منه. واعذاباه! كان عليه ان يحرس فؤاده من قبل عينيه، وان يرابط عندهما كما يرابط حماة الثغور. اما وقد غزي في عقر داره، واستلب هذا الاستلاب الفظيع... فمن ذا الذي يقدر ان يخلصه من بؤسه وينجيه؟!
وتبين له، في ذروة معاناته، انه عاجز لا يستطيع. عاجز اشد العجز. ها انه يعجز عن انتزاع نفسه من براثن هذه الوهدة التي التقمته في ظلامها... كالحوت الأسود. كل لا يقدر من أمره على شيء. كيف الخروج؟!
نملة ضئيلة... وعليها ان تنقض في لحظة رسوخ سور الصين! وامحنتاه! واعذاباه! واسوء منقلباه! لا اله الا انت سبحانك.. اني كنت من الظالمين! وتخيل نفسه يخرج من قبره بكفنه، مرعوباً.. ماضياً الى ارض الحشر الكبرى، ليلقى مالك الدنيا والآخرة، حاملاً في قلبه هذا الحب الدنس الأثم! ويلاه! الى من يحكي؟! ماذا يقول؟!
ودله قلبه، في ليلة سهد قضاها كمن يعالج نزع الروح، على منفذ للنجاه.
كيف لم يتفطن له من قبل؟! انسته عذاباته الأليمة ان يطرق، في محنته، هذا الباب. كان عليه ان يأتي الله ضارعاً، من الأبواب التي امر ان يؤتى منها وان يواصل الطرق.
وتذكر آخر زيارة له في مشهده الأنور. كان قصده غير مرة في مزاره المتلأليء بأرض طوس. الشوق هو الذي دفعه الى زيارته في تلك البقعة القصية، قبل ان تقع هذه البلوى منه على الرأس. وعادت الى ذاكرته القبة الذهبية في سموقها واشراقها، ومشربة الماء المزدحمة دائماً في (الصحن العتيق). في منتصف ليلة واحدة في اول شهر ذي القعدة... شهد بنفسه ست كرامات، واخبر في حينها بأربع غيرها حدثت قبل ان يصل هو الى الصحن العتيق.
كان الصحن غاصاً بالزائرين من كل بلد. ولفت نظره تزاحم كثير من اهل الضر والبلوى امام الشباك المشبك العريض المطل على داخل الروضة... التي بدت من وراء الشباك كأنها حديقة انوار ذات بهجة وصفاء... كانوا جميعاً يموجون بالضراعة والتوسل والابتهال. كل بلسانه، وكل على طريقته. ولمح من بين الجمع الضارع المحتشد غير قليل من ذوي العاهات المزمنة، ومن المرضى المقعدين.
وفكر في نفسه: ان من قدر على ان يعيد الى ذلك الكهل الأعمى بصره...
لقادر علىان يعيد اليه هو بصر القلب. ان من نظر، بكل رأفة وعطف الى ذلكم الصبي المقعد فاذا هو ينهض على قدميه... يمكنه ان يرأف به ويتعطف عليه هو، فينهضه من كبوته.
وتخيل اصوات الزائرين التي كانت ترتفع بالصلاة على النبي وآله، لدى تجلي كل كرامة ينفتح فيها باب الغيب، فينثر على الحاضرين من هباته المخزونة التي لا تعرف الحدود. انه ليحس بالصورة حيةً حاضرة، كما لو انه يطالعها الآن.
واستأنس الى ذاكرته، وهي تستعيد حادثة الشاب المشلول الذي شاهده بعينه يقوم في تلك الليلة بلا عكازتيه، وهو يصيح كالمجنون: «شفيت! شفيت! شفاني الامام الرضا! شفاني الامام!»... فيهرع اليه الزائرون يتمسحون به ويخرقون ثيابه التي على بدنه، يتبركون بقطع منها...
واكثرهم يبكون. انهم ليبكون بكاءً لم يهتد هو الى حقيقته: اهو بكاء فجره هذا الابتهاج المفاجيء... ام بكاء الخشوع لهذه العجيبة الالهية التي تجلت الساعة، فنزلت على الناس محفوفةً باللطف والكرامة؟! وكاد الشاب الذي شفي يختنق من كثرة الزحام عليه لولا ان استنقذه خدم المشهد الرضوي، فألقوا عليه رداءً يستره، وحملوه مسرعين الى غرفة من غرف استراحة الخدام.
فرح من قلبه، وهو يستذكر هذه المشاهد. وكطفل يحلم بهدية مدهشة يفاجؤه بها ابوه... ابتسم ابتسامةً اختلجت لها شفتاه ودمعت عيناه، وقال يحدوه امل كبير:
انا ايضاً سيشفيني الامام! باذن الله تعالى.
تضرع تلك الليلة طويلاً، متوجهاً الى الله من باب الامام الرؤوف. من القابه... الامام الرؤوف. ولي الله الأعظم علي بن موسي الرضا. وما زال يضج الى الله في ابتهاله.. حتى غلبه النوم.
واشرق عليه، في نومه، سر من الغيب... فعاينه. ألفى نفسه في داخل الروضة واقفاً امام الضريح، ولا احد غيره هناك. بصره مشدود بلا اختيار الى الضريح. وتحديداً... الى نقطة نور مستديرة في داخل الضريح. كانت نقطة النور تزداد توهجاً كلما انبسطت في استدارتها واخذت في الاتساع. وثقل عليه قلبه. لم يعد قادراً على تحمل سطعة هذا النور الذي يغشى شعاعه الابصار. نور ابيض لا يشبه انوار الدنيا. كان شمساً في الضريح. وادهشه ان رأى طلعة قدسية يحف بها الجلال والجمال... بدأت تتجلي في قلب دائرة النور. كان كالذاهل المأخوذ حينما سمع صوتاً يخاطبه: دواؤك عند الشيخ متروك.
واشتدت وطأة النور، فأغمي في النوم عليه.
وعادت الرؤيا بتفاصيلها الى وعيه، وقتما برقت ذكراها في الصباح. لقد فاز بما تمني، ولم يخب له في الامام ظن. امام رؤوف. شمس الشموس هو، وانيس النفوس. لكنه كان يتوقع ان يداويه الامام بنفسه، وبلمسة من يده... فلماذا حوله على غيره؟! ثم...من هو الشيخ متروك؟ لم يكن قد سمع باسمه... فاين يجده؟!
الأجابات عن هذه الاسئلة سنجدها مع صاحب هذه القصة ونحن نتابعها في الحلقة المقبلة باذن الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******