السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اهلاً بكم في حلقة اخرى من حلقات هذا البرنامج.
اعزاءنا مجلة «حرم» الصادرة في ايران باللغة الفارسية نشرت في عددها الرابع والثمانين أصل الرواية التي اخترناها لهذه الحلقة وهي تشتمل فيما تشتمل على عبرة جميلة بشأن شدة رأفة اولياء الله على عباده اللاجئين الى ابوابهم وهي في الواقع ملاذ الله جل جلاله. معد البرنامج اختار لهذه الرواية عنواناً مستلهماً من هذه العبرة هو:
ان أبي... جاء ليعودك
تفاح... رمان حلو... الحقوا، تفاح...
كان بائع الفاكهة الجوال هو من ينادي على فاكهته في الزقاق. لبست امرأة عباءتها، ونادته وهي تخرج من باب الدار: مشهدي مختار... مشهدي مختار!
ركن بائع الفاكهة عربته جانباً، واضعاً يده على ظهره المرهق. ازاح قلنسوته واخذ يمسح جبينه بكم سترته: نعم اختي.. ما تريدين؟
تقدمت المرأة، وراحت تتفحص التفاح.
سألته: بكم التفاح؟
بعشرين توماناً.
ايضاً تبيع بالغالي.. مشهدي!
بيني وبين الله شراؤه بثمانية عشر.
قال هذا وتناول كفة القبان: كم كيلو ازن لك... خاتون؟
وغلغل الكفة في التفاح. اما المرأة فقد التقطت محفظة نقودها من داخل الزنبيل، واخرجت منها مئة تومان: خمسة كيوات، من الكبير... مشهدي.
وضع البائع وزن خمسة كيلوات في كفة القبان الأخرى، وملأ الأخرى بالتفاح.
بلا انتقاء اختي، مخلوط كباراً وصغاراً. اطمئني ان التفاح من...
لم يكمل مشهدي مختار عبارته. تجمدت في فمه الكلمات. سقط القبان من يده، وتناثر التفاح على الأرض. كانت عيناه تحدقان في المجهول... وخذلته ساقاه، فصرخت المرأة بلا ارادتها، ومال الى عربته اليدوية ووقع عليها، فتحركت العربة. أعقب حركتها سقوط جسد البائع على الأرض. واستمرت العربة تدرج في طول الزقاق حتى اصطدمت بعمود الكهرباء.
هرعت عدة نسوة من داخل البيوت، وكانت المرأة المرتعبة ما تزال تواصل الصراخ.
هوذا وجهاً لوجه في قبال امواج البحر الصاخبة... يراقب مشهد الغروب. كانت الشمس تغطس وئيدة في اللجة القصية، وقد صبغ لونها الأحمر وجه البحر.
كانت الأمواج لاتفتا تداعب قدميه. وعلى حين غرة شعر أن الأرض بدأت تهتز من تحته! تطلع الى البحر. عاين امواجه تنفلق فلقتين، ورأى بينهما طريقاً يعبر من خلاله الى الشاطيء الآخر.
خطا الى الامام، ومشى قدماً في يبس البحر. مشى ومشى... حتى لم يعد يرى الشاطيء. لم يكن يبصر، من حيثما وجه وجهه، غير امتداد البحر وتلاطم الأمواج.
وفجأةً لاح له نور يتألق امام عينيه. دقق النظر... فرأى حضرة. حضرة تزخ نوراً شديد التألق والسطوع.
جرى باتجاهها... فميزها.
هتف بصوت عال: ايها الامام الرضا!
وأسرع الخطى. أسرع بكل ما يستطيع. غير ان قدمه علقت بصخرة، فوقع بعنف على الارض.
مختار... مختار!
كان اخوه من يناديه. حاول أن ينهض، لكنه لم يستطع النهوض. كان الألم قد امسك به من ظهره الى قدميه. فتح عينيه بمشقة. رأى اخاه واقفاً عنده. ولا حظ رجلاً ذا صدرية بيضاء يهرع الى الغرفة.
ماذا جرى؟
سأل الرجل ذو الصدرية البيضاء، واجابة اخوه: وقع من السرير، ساعدني لنضعه على السرير.
أين انا؟
قال هذا ونظر الى عيني اخيه المبلولتين: لا شيء، يسرني انك عدت الى الوعي يا اخي.
استلقى على ظهره وعيناه مشدودتان الى السقف.. محاولاً ان يتذكر.
هل رأيت حلماً؟
سأل أخوه. حول نظره من السقف الى اخيه، وهمس على مهل: اي.
ياله من حلم! حلم البحر... والسماء النقية الصافية!
بحر مواج من زائري الحضرة يملأ الصحون. والقى مختار نفسه في امواج البحر وغاب في زحمة الجموع... حتى وقف في قبالة النافذة الفولاذية. أغمض عينيه، وكان قلبه يحلق في الماضي القريب.
مرت به خاطرة خروجه من المستشفى، واعلانه عن عزمه لأخيه ولزوجته. وتقبلت زوجته بشغف ما عزم عليه. اما اخوه فكان مصراًعلى بيع منزل مختار واخذه الى احد مستشفيات الاتحاد السوفياتي آنذاك، فانه قد سمع ان لها صيتاً في معالجة السكتة الدماغية.
لكن مختار لم يوافق على ما اقترح اخوه، واوصاه ان يحجز له ولزوجته بطاقتي سفر الى مدينة مشهد.
وها هو الآن في مشهد... قد جاء الى حمى الغوث الكريم ضارعاً يلتمس الشفاء: يا شهيد ارض طوس، يا انيس النفوس.. ادركني!
احس ان كفا امسكت بكفه. وفتح عينيه.. فرأى صبياً آخذاً بكفه، وهو يقوده تلقاء الحرم: تعال... هيات لك مكاناً هناك.
وكان ثمة مكان خال وسط هذا الزحام محاذ للنافذة الفولاذية. مكان يكفي لجلوس شخص واحد. جلس مختار، وابتسم الصبي بحنان: اجلس هنا حتى يأتي ابي!
نظر مختار نظرة حائرة الى طلعة الصبي النورانية الجميلة، وسأل: ابوك؟!
سأقول له ان يأتي ليعودك. لقد جئت من بلدة بعيدة!
كيف...؟!
أليس كذلك؟
نعم، من (هشتبر طالش).
جرى الصبي بين جموع الناس، وفي لحظة غاب عن انظار مختار الحيرى.
اكان حلماً ام يقظة؟!
تساءل مختار مع نفسه مرات. فرك عينيه، وراح يتطلع الى جموع الناس من جديد...الى حيث غاب الصبي عن نظره.
اتراه يقدر ان يصدق ما رآه عياناً؟! ايظل ينتظر؟! مال برأسه الى النافذة، واحس بالتعب يهيمن عليه، فأخلد الى النوم.
كان مختار غافياً لما عاد الصبي. وضع كفه على عاتق مختار وايقظه: انهض ايها الرجل، جاء ابي ليعودك!
وفتح عينيه، فألقى الصبي ومعه رجل يرتدي ثياباً خضراً، بهي المحيا، وعلى شفتيه ابتسامة. ابتسامة جعلت اعماقه تنطق بالشكر. ومن فوره قام من مكانه، فألقى التحية على الرجل وقبل يده: السلام عليك ايها السيد، روحي لك الفداء... هل أنت المولى؟
مسح السيد على رأس مختار ووجهه، وهمس همسة. كانت همسة روحية محيية كأنها ترنيمة شلال تناغي القلب... كأنها تغريدة طيور رائعة. همسة تتضح بالسكينة والاطمئنان، نفت عن جسم مختار كل ما كان يثقله من المتاعب والآلام... فأحس انه قد تخفف وكأنه يهم ان يحلق في الهواء!
اثملته غبطة اللقاء.. حتى غاب عن الوعي. ولما أفاق لم يكن هناك غيره وغير هذه الجموع من الزائرين المعتكفين. لم يجد سيده ومولاه ولا ذلكم الصبي البهي الجميل. وجد نفسه ما يزال في الموضع الذي هداه اليه الصبي.
امسك بمشبك نافذة الحضرة، وأخذ ينادي مولاه بصوت رفيع وينحب باكياً.
احس ان كفاً لا مست كتفه. التفت على عجل، فرأى اخاه امام عينيه. تطلع اليه اخوه بقلق.
سأله مختار: اخي... ماذا كان ذاك؟!
أجابه أخوه: رأيت حلماً يا اخي!
انت ايضاً؟!
رأيت رجلاً يرتدي ثياباً خضراً يمسح على رأسك!
انا ايضاً!
هل كان من يرتدي الثياب الخضر هو الامام؟!
اجل... بيده مسح على رأسي، وتفقدني.
يعني...؟
اجل، لقد فزت بالشفاء. انا متأكد.
الشكر لله.
قبض كلاهما على مشبك النافذة بيديه، ووضعا رأسيهما على النافذة... وراحا يبكيان. انه بكاء الوجد والحنين... بكاء الشكر والإمتنان الذي لا يقوى عليه اللسان.
عجيب هو فعل البكاء! عجباً له كيف يصنع الأعاجيب!
*******