السلام عليكم اعزاءنا ورحمة الله وبركاته اهلاً بكم في حلقة اخرى من هذا البرنامج، افتتحها باشارة الى ان من جميل صنع الله عزوجل ورافته بعباده ان جعل اوليائه المخلصين مظاهر قدرته ورحمته بمقتضى قانون الحديث القدسي المعروف. عبدي اطعني تكون مثلي، اقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون، ومن هذا الحديث القدسي استلهم معد البرنامج عنوان رواية هذه الحلقة التي نشرت اصلها مجلة «الحرم» في عددها الرابع والثمانين، فاختار لها عنوان:
انما اعجازه ان يقول له قم فيقوم
انما اعجازة ان يقول له: «قم» ... فيقوم!
جف لسانه في فمه كالخشبة اليابسة. انه ليسمع الآن خطى الرعب المريبة، مقرونة بدقات قلبه المتسارعة. جحظت عيناه وهو يحدق خائر اللب في جانب الطريق.
في جوف الظلمه ارتسم في مرآة عينيه شبح ابيض واقف على جانب الجادة. لعله ذئب متلبس بصورة انسان!
ان القرية التي يقطنها تقع اسفل قليلاً، حيث يلتف الطريق كالثعبان وهو يود ان يقطع المسافة الى الدار محلقاً كطير طليق، فينجو من هذا القلق المستبد!
صوت دراجته النارية يمزق سكون السهل، وهو يزداد اقتراباً من الشبح. وان صمت السهل يثير في داخله الرعب... حتى احتبست انفاس (ناصر) في صدره.
كانت المسافة بينه وبين الشبح الابيض لا تعدو عدة امتار لما تبينه فاستولت عليه الدهشة! انه هو.. هو نفسه احمد، صديقه الحميم الذي كان قد قتل في حادثة سيارة! حدق به ... لكنه لم يصدق! استجمع كل طاقته ليزيد من سرعة دراجته بكل ما يقدر. والواقع ان طاقته لم تسعفه. اطبق جفنيه.. وفي لحظة انزاحت ستارة من امام عينيه المضطربتين.
ربما كان خيالاً! قلبه يدق بعنف .. كأنه عصفور مستميت طلباً للنجاة فيقرع بشدة قفص الصدر! التفت الى ورائه ليطمئن ان ما رآه لم يكن غير كابوس. كلا! .. انه غير ممكن! لقد كان احمد راكباً خلفه على الدراجة النارية! ارتعب ناصر فزعاً. اراد ان يدفع احمد لينزله لكن يده تخللت جسم احمد وغطست فيه.. كأنما جسمه من ضباب! تضاعف تسلط الرعب عليه. وفي تلك اللحظة فقد السيطرة على الدراجة، وهوى بقوة الى الارض.
التابوت يتقدم محمولاً على الايدي... والجميع يرتدون السواد. من الميت؟! لماذا تنتحب زوجة ناصر واطفاله يبكون؟! لماذا يناديه اخوه باسمه وهو يبكي؟! اسرع اليهم ليتحقق من الامر.
حاول ان يحتضن اخاه ويهديء من روعه، لكن جسده - وهويحتضن اخاه- كان مجبولاً من ضباب .. كما هو جسد احمد!
وضعوا الجنارة على المغتسل. آه! انه .. انه هو نفسه! يعني .. يعني؟! وسكبوا عليه ماءً بارداً، فجاء به الماء البارد الى شاطيء اليقظة والصحو!
باعد بين أجفانه بجهد. وجد أنه ممدد على سرير محاطاً بظلال بدأ لونها يأخذ بالتعمق والوضوح. تململ ناصر ليقوم، لكن ضعفه الشديد لم يسمح له بالقيام.
وعند باب الغرفة ظهر اخو ناصر مضطرباً. جاء اليه راكضاً واحتضنه. قال وهو يجهد ان يتماسك امام اخيه: هل حالتك جيدة يا اخي؟
ثم التفت الى (مشهدي علي) قائلاً: الله يجازيك بالخير على نقلك ناصر الى المستشفى، أنا ممتن لك.
وتابع حديثه مع اخيه: لم تقل لي كيف انت يا اخي!
حاول ناصر ان يجيب اخاه بكلمة.. لكنه لم يقدر مهما حاول الكلام. ودعا الطبيب شقيق ناصر أن يخرج معه من الغرفة.
حين رأت زوجة ناصر حماها والطبيب، نهضت من المصطبة التي كانت جالسة عليها في الممر، واتجهت صوبهما.
سألت بعبرة: كيف حال ناصر يادكتور؟
قال الطبيب وهو يسعى لتهدئتها:
حالته مرضية. المشكلة الوحيدة المؤسفة ان ناصر فقد قدرته على الكلام!
بادر اخو ناصر متعجباً: لماذا؟!
قال الطبيب: السبب غير معلوم، لكن المحتمل ان يلزم تعريضه لصدمة. والمؤسف ان هذا ليس بايدينا. يمكنكم ان تأخذوه غداً الى البيت!
على الرغم من ان عدة اسابيع قد مرت على الحادثة.. الا ان ناصر لم يستطع ان يهنأ بنوم. كلما اراد ان لا يفكر فيما جرى لم يجد الى ذلك سبيلاً. ان تلك الحادثة التي تحمل وحشة الكابوس قد سلبته الأمن والاستقرار.
كان ناصر، بعينيه الواهنتين ووجنتيه الشاحبتين، جالساً في ناحية من الغرفة مستغرقاً في صمت. لقد افضت به هموم مرضه الى مهوى اليأس، وكان شعوره بالضيق يضغط على قلبه. ومزقت المرأة سكون الغرفة الحزين، قالت:
اقول ناصر، نحن راجعنا اطباء كثيرين ولم نحصل على شيء، واخي يريد ان يذهب مع عائلته الى مشهد، وقال لي: تعالوا معنا اذا كنتم راغبين...
القى الرجل نظرة محزونة على صورة الحضرة الرضوية المنورة المعلقة في الحائط... وتابع النظر اليها لحظات، كان لألاء القبة والمنائر يضيء خلالها قنديل الأمل في قلبه.
تغرغرت عيناه، وتوقد في صدره وجد لزيارة الامام الرضا (عليه السلام). ان صقيع الشتاء الذي كان يثقل اعماقه قد تحول الآن الى برودة هينة هي اشبه ببرودة ايام الخريف، والغيوم السود التي كانت تغطي سماء كينونته قد انقشعت بهبة ريح.
في الصحن الطاهر... لا حظ جموعاً غفيرة من الزائرين، وهم عاكفون على الذكر والزيارة والابتهال. وكان لما خلفه هطول ثلج البارحة على القبة الذهبية منظر جمالي خاص.
كان ناصر - والى جواره عدد من المرضى الآخرين- جالساً عند النافذة ينتظر، لسعت وجهه ريح باردة، فأدنى قلنسوته من حاجبيه، واستغرق مع نفسه. امتلأت عيناه بالدمع، وانشدت نظراته الملتمسة الراجية الى نافذة النجاة. وفي بيت الحنان هذا بدأ يقرأ بين الجمع المؤمل المحتاج زيارة كعبة الامنيات. العبرات كانت تتكسر في الصدر، لكن قلبه في داخله كان متوجهاً لمناجاة الائمة الطاهرين.
بصمت كان يبكي وهو يتلو آيات من القرآن بغير لسان، متضرعاً الى الله ان يعينه وينهضه من كبوته... وقلبه يغتسل بماءعينيه، حتى تطهر وصفا.
وعند اللحظة التي أغلق فيها جفنيه.. أقبل اليه رجل يرتدي ثياباً خضراً تحف به هالة من نور، وقد تحزم بنطاق من شال اخضر. خاطبة الرجل المحفوف بهالة النور، وكان خطابه عذباً عذوبة ملكوتية رائقة لم يعهدها في اي خطاب من قبل: قم!
احس ان نسغ حياة طرية رائعة بدأ يسري في كل جسده المرهق.
اضطرب ناصر وقام من مكانه. فها هي نسائم الرحمة قد جلت غبار الكدر والهم عن زجاجة وجوده، وافاضت عليه نعمة المعافية والهناء. وكانت تتصاعد من أغوار قلبه تراتيل الشكر لله. فكان اول ما نطق به وهو يقوم: الحمد لله.. الحمد لله ولك الشكر يا ولي الله ورأفته المحيطة بالعباد.
اخذ يجيل النظر فيما حوله وقد غمره سرور بل بهجة ربانية، وتمنى ان يحصل الجميع على ما حصل عليه، انه مهرجان الماء والمرايا والأزهار والرياحين.. في ضيافة ملكوتية تدور عليهم فيها ملائكة الحضرة القدسية، ناثرةً الورد المحمدي بفرح روحي غامر على رؤوس ووجوه الزائرين، وكان عبير ماء الورد في كل مكان.
ان عبير الحب يناغي مشامه، وها هم اولاء المحبون الآنسون بالحدائق الرضوية الدائمة يرقبون لطف الرضا (عليه السلام) بعيون تزخر بالنجوم.
(ترجمة واعداد من مجلة الحرم ص ۱۲- ۱۳، العدد ۸٤)
*******