السلام عليكم احباءنا ورحمة الله وبركاته. أهلاً بكم ومرحباً في حلقة اخرى من هذا البرنامج تحمل قصتها عنوان:
إن أحداً يأتي!
وهي معدة عما نشرته موثقاً مجلة حرم الايرانية في عددها المزدوج الخامس والعشرين والسادس والعشرين الصادر في تشرين الثاني سنة ۱۹۹۷.
قال: عيشتنا نحن الفقراء مثل الزقوم. لا ادري لماذا الله...
تقاطعينه: لا تكفر يا رجل! هي حكمة الله. "علي" اذا يحدث له شيء .. فهو من ارادة الله.
يرنو اليك يعقوب. يحسب بالخجل يملأ وجوده ويهمس مع نفسه: كلامك صحيح.. لكن ماذا افعل؟! سبحان الذي يختبر عباده دائماً بالبلاء. ثم يلتفت اليك ويبصيح: عفت .. انظري هنا!
وتنظرين الى حيث اشار، الى شاشة التلفزيون بالابيض والاسود: تشاهدين عتبة الامام الرضا عليه السلام، وامواج الناس التي تهرع هناك الى ينبوع النور والرحمة. كل واحد منهم عنده هم. نحن ايضاً عندنا هم!
يعقوب مشدود نظره الى التلفزيون، وعيناه قد غرقتا بالدمع والرجاء يقول: ليت عندنا نقوداً فنأخذ "علياً" الى مشهد، لعل الامام ينظر بلطفه الينا والى هذا الولد. ابتلع بقية كلامه.. لكنك تعرفين هذه البقية كلامك كلام يعقوب، وكلام يعقوب حديث قلبك.
تعرفين .. ما عندي الا قطعة ارض زراعية. والفلوس التي نحصل عليها كل سنوة من بيع المزروعات هي بمقدار قوت حتى لا يموت. وتفكرين انت في عليّ. في عينيه بريق النشاط والمرح. يضع كفك في كفه ويضغط عليها بمحبة: بعد التخرج اشتغل يا ماما، وترتاحين انت وابي من هذا الوضع.
وتهمين ان تنطقي معترضة على كلامه، لكنه يبادرك بالقول: يعني نبقى راضين بهذه الارض وهذا البيت القفص؟! اذا اشتغلت نذهب لنعيش في المدينة.
اردت ان تقولي له: "انت وابوك يعقوب قد ولدتما في هذه القرية وكبرتما فيها على حليبها الطازج، وخبزها الحار الذي اخرج تواً من التنور.." لكن نظرات علي صرفتك عن توجيه ضربة الى قلعة احلامه تحولها في الحظة الى حطام انه شاب ممتلىء بالاحلام لم تفعلي غير الابتسام.
وهمست له: ان شاء الله.
وانحنى علي فطبع قبلة على يدك. ويلاحظ يعقوب دمعة عالقة باطراف اهدابك ينهض من مكانه، ويلقي نظرة على طرف الغرفة الاخر.. حيث يرقد علي في فراشه على الارض، وهو ما بين الحياة والموت. يهز راسه اسفاً، ويذهب الى علي. يزيح البطانية عنه قليلاً، ويقول له بلطف: علاوي.
لا يصدر من عي جواب. يتحرك حركة دون ان ينطق وجهه مغسول بالدموع. انت تنظرين الى يعقوب، ويعقوب ينظر الى علي علي ..آه! لقد حرمت من نظراته الهادئة الطموحة، وتشوقت الى حديثه والى شفته وهي تطبع قبلة على يدك الكادحة المخشوشنة. تنظرين الى يعقوب الذي كان ينظر الى ولده بوجوم فتخنقك العبرة. وبعد لحظة يخرج يعقوب من الغرفة، وتظلين انت وعلي والتلفزيون الذي لم يعد يعرض على شاشته صورة العتبة الرضوية. تنهضين من مكانك ساهمة، وانت تنقلين ساقيك الثقيلتين بعسر. لو مشيت متكئة على كتف علي لسهل عليك المشي. وتعود بك الذكرى الى الوراء: يجب ان اشتري لك كرسياً متحركاً يا مامام. لا.. لماذا الكرسي المتحرك انا نفسي اكون عصى ليدك، اخذك اينما تريدين.. اينما تريدين. ترنو نظراتك الى علي، وهو يرنو اليك ايضاً. تقولين له: لا ماما. في البداية مش حالك، ثم فكر بي بعد ذلك. لا يا ماما، انت اولاً.
تعلو شفتيك الشاحبتين ابتسامة: هذا كلام الآن. في غد اذا وجدت ابنة الحلال تنسى هذا الكلام..
ما هذا الكلام يا ماما؟! هل ممكن ان انسى؟! انت اولاً ثم المرأة محبة الام لها مكانها، والزوجة لها مكانها. ثم تتفرج شفتاه بابتسامة. تأنسين بهذا الكلام، وتضفي عليك نظراتك طمأنينة وانت تشمين في كلماته عطر الصدق والاخلاص. انت وابي .. كلاكما اصعدكما الى السماء...
تضحكين انت، في حين يلثم علي جبينك ويقول: فقد ادعي لي فقط ادعي. تلتمع عيناه بدمعة، فينهض من مكانه عاجلاً ويخرج من الغرفة، ويدعك وحيدة بقب كله استفهام واضطراب.
تجدين يعقوب مختلياً بنفسه في فناء الدار، جالساً وحده بصمت.. وكأنه لم يشر بوجودك. لعله مثلك يفكر في علي. يفكر بالسكوت الذي يتخلل حديثه الودود.. بدفء كفه. بنظراته. وتتقدمين باتجاه يعقوب.. يخاطبك: هل تصدقين يا عفت ان علياً الذي كان شعلة مرح ونشاط يقع هكذا دفعة واحدة؟!
تقولين باكية: لا..ابداًَ.
ويتابع يعقوب: انا ايضاً لا اصدق هل خطر هذا على بال احد؟! لا.. لا احد.
تقولين بصوت منكسر: بغير وجود علي انا لا شيء.
ويقول يعقوب: لا ادري كيف استطيع ان اواصل العيش بدونه. علي قطعة من كبدينا.
ثم يغطي يعقوب وجهه بيديه.. وتغطي وجهك الدموع، فتشتعل في قلبك نيران اليأس. وتعود الى ذهنك ذكرى ذلك اليوم حية شاخصة: كنت منشغلة عند التنور في باحة الدار تعدين الخبز.. لما اقبل عليك ابن الجيران صارخاً: خالة ... خالة .. علي .. سارة قرب دكان حاج قاسم.. ولم تسمعي بقية كلامه. وضت العباءة على رأسك بارتباك. وبعد دقيقة واحدة ـ وربما اقل من دقيقة ـ وصلت الى دكان الحاج قاسم. الناس مجتمعون. واقتحمت الجمع. ولما شاهدت علي اردت ان تصرخي، لكن الحياء الذي كان في داخلك منعك من الصراخ. الارض حمراء مصبوغة بدم علي .. المطروح على الارض نصف ميت ونصف حي. يصل ايضاً يعقوب. يعقوب زوجك وانيسك.. وابو علي بعد لحظات يحمل علي على الايدي، ويوضع على كرسي سيارة تريدين ان تذهبي انت كذلك مع يعقوب وعلي، لكن يعقوب يمنعك: انت روحي الى المنزل.
لم تكوني تطيقين الرواح الى المنزل، لكن لا مفر. وحين تدخلين الغرفة تنظرين الى صورة علي وتطيلين التحديق كان علي في الصورة يضحك.. اما انت فتبكين.
تجلسين في زاوية الغرفة تنتظرين تمر ساعة ساعتان ويطول على قلبك الانتظار حتى يحل الليل كأن قيامة قد قامت يومها مقداره الف سنة وتقضين الليل مستوحدة حيرى محزونة تترقبين .. حتى يقبل الصباح تتوضئين وتقومين لصلاة الفجر ترفعين يديك بالدعاء لعلي وليعقوب.
على حين غرة يقتحم الدار صوت تقفزين من مكانك، وتخرجين الى فناء الدار الشمس لم تطلع بعد تفتحين الباب واذا بيعقوب يلقي عليك التحية مرهقاً ويلج الى الفناء يدور في داخل الغرفة، وانت معه تدورين ويعلق بصره بصورة علي ثم يلتفت اليك: يتحسن علي لكن..
الف لكن تطن في ذهنك: لكن .. ماذا؟!
سلامته الكاملة .. ليس للدكتور فيها امل. لا ادري، يقولون نخاعه اصيب بضرر قلت: اخذه الى طهران قالوا لا فائدة. ينبوع الدمع يجف من عينيك وتتمنين لو كان بامكانك ان تذرفي دمعة على خدك تحدقين بصورة علي انه يضحك ايضاً.. وانت تبكين انه يستمر يضحك.
انت ويعقوب غائصان في عتمة باحة الدار. وانت على تلك الحال تتطلعين الى عيني يعقوب عيناه نديتان بالدمع يقول: فقط علينا ان نظل على امل. يمنَّ الله علينا ويحفظ لنا علينا الله يعلم كم هو عزيز علينا علي.
التمعت في ذهنك فكرة، لا تدرين اتقولينها ليعقوب تترددين مدة، ثم تنطقين: ارد ان احوك سجادة.
تبتسمين لنظرة يعقوب المتسائلة وتواصلين الكلام: من غد ابدأ ابيعها، وبثمنها آخذ علياً الى مشهد يرنو اليك يعقوب، وتلمحين في عنيه وميض القبول والاستحسان. كأنما تهمين ان تقولي انك تاملين ان يظل علي يحكي لك عن آماله واحلامه، وانك تحنين الى لمس دفء يديه.. بيد ان العبرة التي كانت تتكسر في صدرك تمنعك من الكلام.
انت جالسة الى النول العمودي امامك.. تحوكين السجادة التي وعدت بها يعقوب. انت منهمكة بها لا تشعرين بما حولك بشيء لا تشعرين حتى بيعقوب الذي جاء من خلفك انه هو الذي يقول: لا ترهقي نفسك كثيراً.
يجلس يعقوب الى جنبك عند النول، وبصره يرنو الى السجادة التي لم تكتمل بعد. تحوكين السجادة بطريقة نقش زهرة الآس؟
أي الآس افضل من الكل.
يضحك يعقوب: في الليلة الاتية يقام مجلس لدعاء التوسل هل تأتين؟
يجري تفكيرك على لسانك: لا اريد ان اكمل السجادة. بغتة تسمعين علياً يئن تتسارع في صدرك دقات القلب، وبارتباك تروحين الى علي. ماء!
يحضر يعقوب الماء ويناوله الى علي يشرب علي بمشقة، ثم يرمي برأسه على المخدة.. بوجه ناحل، وعين مفتوحة الى النصف ترجعين وتجلسين عند النول، وفي قلبك عالم من الآمال.
يداك تحوكان آخر "ادوار" السجادة تعبي النفس حقاً، لكنك تصرين على مواصلة اعمل حتى النهاية. قلبك دافئ بوجود علي، باحلام حديثه الودود، ووعوده الجميلة علي! الان اتضحت صورة زهر الآس على السجادة بجلاء تتذكرين علياً فتجدين في داخلك طاقة مضاعفة تعلمين ان الليلة هي ليلة الاربعاء ليلة دعاء التوسل الجماعي في المسجد ويعقوب.
فجأة ترتجف يداك على النول.. انت كلك ترتجفين تحسين احداً في الغرفة تقولين في سرك: من غيرنا انا وعلي في الغرفة؟!
كل لحظة يزداد شعورك بوجود الشخص ان احداً يأتي في انفراد قلبك وعلي احساس مبهم يقتحم وجودك تحدقين بالسجادة وتهمسين: استغفر الله واتوب اليه.
ما زلت تسمعين وقع اقدام الاتي .. في قلبك في كيانك ويفاجؤك صوت علي يتأوه. تلتفتين اليه، فترين علياً حائراً مبهوتاً كلاكما مبهوت: علي ينظر اليك مندهشاً انت ترتجفين وكذلك علي.
امام ناظريك المذهولين علي على فراشه في نصف قعدة تعجبين كذلك وتحارين كأنك لست الآن في هذه الدنيا علي يقعد على الفراش انه الامل الذي طالما ذرفت من اجله ساخن الدمع علي الذي ليس في وسعه ان ينط بحرف واحد ها هو يتكلم يخاطبك: ماما .. أين ذهب؟!
يأخذك الخوف. علي يقوم واقفاً .. كما كان من قبل تكادين تموتين من الدهشة. علي ينقل قدميه، ويتقدم الى الامام باضطراب ظاهر. تقرئين سورة "الحمد" بصوت خفيض انه ما يزال يمشي: أين ذهب؟! أين ذهب؟!
وانت في حيرتك الخائفة تسألين: من هو؟!
علي لا يجيب عن السؤال يطلق ساقيه يركض باتجاه فناء الدار .. وانت تلحقينه يفتح الباب ويمد رأسه الى خارجه لحظات يفتش في الزقاق. ثم يغلق الباب على مهل وحين يستدير تشاهدين وجهه مغسولاً بالدموع. تتطلعين الى علي بحيرة حائرة: ولدي علي .. انا فداء لك .. انت .. انت الذي .. ها انت تمشي الآن!
وتنساب من عينيك انت ايضاً سيول الدموع وكطفل هائج يضرب على راسه بالحائط. ضرب ويضرب ويبكي ويبلغ الآذان صوت مذياع المسجد دعاء التوسل: (يا علي بن موسى، ايها الرضا يا ابن رسول الله يا حجة الله على خلقه، يا سيدنا ومولانا انا توجهنا واستشفعنا وتوسلنا بك الى الله وقدمناك بين يدي حاجاتنا يا...).
وتتذكرين ان يعقوب الآن في المسجد وتقوين في سرك: لم يبق كثير على عودة يعقوب.
واضح لديك ان عليك ان تسجدي شكراً لله تنظرين الى السماء، وتذرفين دمعة علي جالي على الارض في حيرة ووجوم تقودينه الى داخل الغرفة تنشفين دموع عينيه، وتجلسين عند النول. انت منهمكة الآن بآخر "دور" من ادوار السجادة تحوكينه.. ويدخل يعقوب.
ينهض علي من مكانه ويرمي بنفسه باكياً في احضان يعقوب يبكي يعقوب بكاء صامتاً وعلي ينتحب لا يقر له قرار كأنه قد فقد عزيزاً عليه. ومن خلال النول المنتصب تنظرين الى علي ويعقوب علي يقبل اليك. يتطلع الى السجادة المنقوشة عليها زهرة الآس. انت تحدقين في علي وعلي يحدق في السجادة على النول.
تمر لحظات يأخذ علي كفك بين كفيه، ثم تلامس شفته كفك: في يدك يا ماما عطر الآس. لكن لا عطر اروح ابداً من عطر وجود مولاي الامام.. الذي اتاني عند فراشي واطلقني من العذاب والمرارات. تحتضنين علياً بمسرة وابتهاج .. ويتوحد قلبك بقلب علي.
*******