السلام عليكم احباءنا ورحمة الله وبركاته اهلاً بكم في حلقة اخرى من حلقات هذا البرنامج، نفتح فيها قلوبنا لرواية قصة اخرى من قصص الذين استجاب الله دعائهم ببركة التوسل اليه باحب خلقه اليه اهل البيت النبوة عليهم السلام.
المعافاة: معصومة المنصوري، من اصفهان.
المرض: السرطان.
عيناها مطبقتان، لكنها تحس اشراقة النور بوضوح كان النور يتزايد باستمرار، ومن وراء اجفانها المغلقة كان يتبدى لها بالوان جميلة متعاقبة: اصفر، ازرق، بنفسجي، احمر...
كانت يقظى.. وادركت كل شيء. حتى العطر العذب الذي بلغ انفها قد اسحت به. ما اورعه من عطر، كأنه من نسيم الجنة. وهذا الصوت الذي نطق باسمها ووصل الى مسامعها لم يكن صوتاً من الارض. كان صوتاً سماوياً الهياً.
فتحت عينيها.. ففجأهما نور ثاقب. وبلا ارادة منها رفعت يديها تحمي بهما عينيها، وراحت تضغط على جفنيها. ومرةً اخرى سمعت الصوت. انه صوت آت من داخل الانوار الذهبية البراقة. انهضي يا معصومة، جاء اليك ضيف.
لم تكن معصومة تعرف من ناداها، بيد ان الصوت قال يجيبها: الم تأتي طلباً للشفاء؟! هذا هو الامام الرضا سيأتي اليك. انهضي واستعدي.
نهضت معصومة بسرعة. النور ما يزال مشرقاً ويزداد تألقاًَ وسطوعاً، وكانت تحس بحرارته كذلك. وغطى العرق رأسها ووجهها نادت (علي اكبر): علي اكبر .. علي اكبر.
تململ علي اكبر في مكانه، وقال وهو يغط في النوم: ها...
هزته معصومة رافعة صوتها: قم واعطني عباءتي، لدينا ضيف. لكن ثقل نوم علي اكبر كان اقوى من ان توقظه هزة معصومة وصياحها. قامت معصومة من مكانها وارتدت عباءتها، وجلست قبالة النور. ما اجمله من انتظار! اتراها ستلتقي حقاً بامامها؟! وهل سيتفضل عليها بالعافية؟ تغلغل الفرح الى عمق كيانها، وكادت تطير جذلاً. وهيمنت عليها لحظات انتظار، كانت كل لحظة منها اعمق من سابقتها واثمن.
تناهى الى سمعها صوت فتح الباب وغلقه. لكن سطعة النور سلبتها قدرتها على النظر والتمييز. ومرة اخرى .. سمعت ذلكم الصوت. انه الصوت السماوي نفسه.. الصوت الذي يجيء من قلب امواج النور:
- الامام عليه السلام شفاك، من اجل اربعين جده الحسين عليه السلام.
شعرت معصومة بالبرودة، وتمشي في جسدها خدر، وكأن روحها انفصلت عن جسدها ثم عادت اليه. لكنها لم تشعر في بدنها هذه المرة بألم. كانت تحس بالتخفف والشفافية، وبالحرارة تسري في روحها.. وشعرت انها ما تزال على قيد الحياة، ما تزال قادرة على الرؤية وعلى الاحساس بكل شيء. قامت من كانها، وهرعت الى الباب غير مصدقة. ادارت المقبض، لكن الباب كان مقفلاً. اسرع نحو النافذة، والقت نظرة الى الخارج. كل شيء كان غارقاً في الظلام، والشارع يهيمن عليه الصمت والسكون. مدت قامتها لتشاهد اخر منعطف الشارع الذي يفضي حرم الامام عليه السلام. كان الشارع خالياً، وما من احد. وفوراً تذكرت معصومة ان اربعين الامام الحسين عليه السلام يصادف يوم غد، فغمرت عينيها الدموع، ورفعت رأسها تتطلع الى السماء. الجو غائم ملبد، والسماء معتمة شديدة السواد، وما ثم من فرجة يتسلل منها ضوء القمر. ولكن.. ذلك النور الذي...؟! اتكون قد رأت حلماً؟! اكان ذلك العطر الفردوسي الذي عطر مشامها عطر حضور الامام؟! وذلك الصوت..؟ كلا.. لم يكن حلماً ذلك الذي رأته. تقسم انها سمعت الصوت باذنيها، واستنشقت العطر الملكوتي بانفها. واذن.. هل نالت الشفاء؟ تمتمت بالصلاة على محمد وآل محمد، وراحت تدعو بما تعرف من عبارات الدعاء.
*******
وعلى مهل .. ذهبت نحو حنفية الماء.. توضأت، ومدت سجادتها في وسط الغرفة، وانتصبت تصلي صلاة الشكر الله اكبر.
لم يداعب النوم اجفانها الى الصباح، وما من اثر للألم. في الليالي الماضية كانت تفيق من النوم صارخة، وتتلوى من شدة الاوجاع عدة مرات، ولا تهدأ حتى يطلع الصبح. وحتى علي اكبر كان يسمع صيحاتها المتوجعة، فيطير من عينيه النوم:
- ماذا حدث يا معصومة؟
- اوجاع..جسمي كله يحترق.
- تحملي يا معصومة، في الصباح اخذك مرة اخرى الى الدكتور.
- الدكتور لا يفيد، اني اموت.
- لا تقولي هذا يا معصومة، كوني متفائلة. ولا يحل الصبح الا وقد املها علي اكبر عشرات المرات، لكن ما ثم من علاج.
امس ساءت حالتها.. حتى انها قطعت املها بالامام عليه السلام. الامام الذي تعرف انه رؤوف، وتعرف انه قد وهبها في مرة سابقة حاجة لها ملحة. اما فكأنه لا يهتم بها ولا يجيب طلبها! في الليل بكت كثيراً على خيبتها، حتى اخذها النوم الى ان حدث ماحدث في تلك الليلة.
*******
في الصباح قصت على زوجها كل ما جرى لها في الليل، فالتمعت في نظرات علي اكبر العميقة برقة من نور الفرح. لقد افاض عليه خبر معصومة السرور، وصمم ان يأخذها الى الطبيب ليثبت صحة تصوره.
ان اليأس الم فتاك، خاصة لمن عاد مرة من محضر الامام رابحاً فائزاً بما يريد. وفي تلك المرة كان قد مضى على زواجها من علي اكبر سبع سنين، لم يرزقا فيها طفلاً. وكان الزوج يسعى لمواساة زوجته لئلا تجرح مشاعرها، على الرغم من شغفه الكبير بان يولد له طفل. وكان يؤملها انهما سرزقان طفلاً في اخر الامر. لكن الاشارات الجارحة والنظرات ذات المغزى التي تلقاها معصومة ممن حولها من الاقارب والاصدقاء كانت تلذع قلبها وتوقعها في عذاب شديد.
وقرر علي اكبر ان يذهب الى مشهد لينال مبتغاه. اعد عدة السفر، ومضى مع زوجته معصومة الى مشهد الرضا عليه السلام. وبسرعة تفضل الامام الرضا عليه السلام على الزوجين بما يبغيان، فرزقا بعد تلكم السنين الطويلة من المعاناة بولد اسمياه "محمد رضا" عرفاناً بجميل الامام عليه السلام.
*******
ولم تمض غير اشهر معدودات على ولادتها محمد رضا حتى فتح الله سبحانه امام معصومة باباً اخر للامتحان. لقد اصيبت باوجاع مبرحة سلبتها قدرتها وضيقت عليها الانفاس. وكان تشخيص الاطباء انها مصابة بغدة سرطانية آخذة بالتفرع والانتشار. وعلى انفراد اخبروا علي اكبر ان لا امل لزوجته في الحياة. ومنذ ذلك اليوم اصيب علي اكبر بالذبول والنحول اذ يشاهد زوجته تضعف وتذوي يوماً بعد يوم، وهو عاجز ان يفعل من اجلها أي شيء.
الاقرباء والجيران يأتون لعيادة معصومة، ويبتهلون من اجل شفائها، ويواسون علي اكبر ليتماسك ولا يفقد الرجاء. لكن علي اكبر كان يعرف ان امرأته مصابة بمرض عضال لا علاج له الا ان تحدث معجزة الهية. ولقد كانت هذه المعجزة بانتظار معصومة. ان أي حادث انما يبدأ دائماً من نقطة معينة، وربما احتاج الامر الى شرارة واحدة لتتقد شعلة حادثة مهمة. وقد اطلق هذه الشرارة في حياة معصومة احدى قريباتها.
في المنام رأت هذه القريبة معصومة على هيئة حمامة تحلق في حرم الامام الرضا عليه السلام. ولما قصت رؤياها على معصومة انطلقت اهة من اعماقها وغرقت في التفكير: لماذا لم تتفطن مبكراً ان عليها ان تقصد مدينة مشهد التماساً لشفائها؟ ومن هنا راحت تؤنب نفسها وتلومها. وفي اليوم نفسه اخبرت زوجها بالرؤيا، وسرعان ما شد الرحال تلقاء مدينة مشهد المقدسة.
امضت معصومة ليلتين عند النافذة الفولاذية دخيلة على الامام الرضا عليه السلام، ولكن شيئاً لم يحدث في هاتين الليلتين. وبدأ الناس يتسرب الى معصومة كالوباء. اتراها ستموت في مرضها العضال هذا؟!
في اليوم الثالث ازدادت حالتها سوء فنقلوها الى الفندق. وفي الفندق كانت راقدة في الليل عندما وقعت الواقعة.
كلا.. لم يكن حلماءً. انه حالة بين اليقظة والنوم. وادركت في حينها كل شيء كانت تحس وترى. لكن ما رأته كان كالرؤيا .. رؤيا جميلة جداً.
فحص الدكتور معصومة، فارتسمت على قسماته علامات الحيرة والانكار. اتسعت حدقتاه، وراح يضع نضارته ويرفعها مرات، ثم جلس على مقعده واخذ يحدق في المجهول دون ان ينطق بحرف. ولم يستطع علي اكبر صبراً، فتقجم نحو الطبيب وقطع الصمت:
- ماذا يا دكتور؟
القى الدكترو نظرة على علي اكبر، وقال بصوت مهتز:
- اذن.. فهي حقيقة؟!
تأوه الدكتور وقال:
- ممكن فقط ان تكون معجزة قد حدثت، معجزة الهية. وبمودة عارمة راح علي اكبر يحتضن الدكتور ويغرقه بالقبلات، قال:
- نعم يا دكتور، وقعت معجزة، معجزة الشفاء، معجزة على يد الامام الرؤوف.
الصق الدكتور اوراق الفحص القديمة والجديدة، وقال هو يضعها في داخل الملف:
- هذه الاوراق تظل بعنوان سند تأريخي وديني، سند اعتقادي كامل.
ثم التفت الى معصومة، وقال لها بابتسامة تفيض بالمحبة:
- أبارك لك ايتها السيدة، فانت اسعد مريضة على وجه الارض.
*******
ختاماً نشير الى ان الاخت المعافاة هي السيدة معصومة منصوري من اهالي محافظة اصفهان، وكانت قد اصيبت بمرض السرطان وقد نشرت صل قصتها مجلة زائر الصادرة بالفارسية في ايران في عددها التاسع والثلاثين الصادر في شهر تشرين الثاني سنة ۱۹۹۷.
الى لقاء آخر نستودعكم الله بكل خير. نسألكم الدعاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******