فهي زوجة علي عليه السلام بطل الاسلام ورجل البطولة والفداء وحامل لواء النصر والجهاد وعليها ان تكون بمستوى هذه المهمة الخطيرة وان تكون لعلي كما كانت امها لرسول الله تشاركه في جهاده وتصبر على قساوة الحياة ومرحلة الدعوة الصعبة التي يتصدر علي طلائعها ببطولة وبسالة.
روي عن الامام عليه السلام في حديث تزويجه بفاطمة قال: ثم صاح بي رسول الله صلى الله عليه وآله : يا علي عليه السلام. فقلت: لبيك يا رسول الله صلى الله عليه وآله, فقال : ادخل بيتك و ألطف بزوجتك وارفق بها فان فاطمة عليها السلام بضعة مني يؤلمني ما يؤلمها ويسرني ما يسرها. قال علي عليه السلام: فوالله ما اغضبتها ولا اكرهتها على امر حتى قبضها الله عزوجل, ولا اغضبتني ولا عصت لي امرا, ولقد كنت عندما انظر اليها تنكشف عني الهموم والاحزان.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله ليترك هذا الغرس النبوي دون ان يرعاه ويحتضنه, فمد رسول الله صلى الله عليه وآله رعايته وحاط فاطمة عليها السلام وعلياً بتوجيهه وعنايته حتى انه اذا اراد الخروج في سفر أو غزوة كانت فاطمة عليها السلام آخر انسان يودعه واذا عاد من سفرة من غزوة كان أول انسان يلتقي به هو فاطمة عليها السلام.
فعن ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله اذا سافر آخر عهده اتيان فاطمة عليها السلام واول من يدخل عليه اذا قدم فاطمة عليها السلام.
وتعيش فاطمة عليها السلام في بيتها كربّة بيت, تعتني بشؤون منزلها وتدير حاجاتها بالاعتماد على جهودها.. فلم يكن لديها خدم ولا عبيد فكل حياتها كدح وجهاد.. كانت تطحن الشعير وتدير الرحى بيدها وتصنع اقراص الخبز بنفسها وتكنس البيت وتدبر مستلزمات الاسرة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي يريان ذلك من فاطمة عليها السلام فيشاركانها العناء ويهونان عليها مصاعب الحياة.. بل وكان علي عليه السلام وربما النبي صلى الله عليه وآله يساعدان في أعمال المنزل وتدبير شؤون البيت.
فقد صوّر لنا التاريخ ودوّن كتاب السير والاثر, صورة الحياة العائلية الفريدة التي كانت تعيشها فاطمة عليها السلام مع زوجها وابنائها -اهل بيت النبوة- عليهم السلام تحت ظلال ابيها رسول الله صلى الله عليه وآله, فقد روي انه دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على فاطمة عليها السلام وهي تبكي وتطحن بالرحى وعليها كساء من أجلة الابل, فلما رآها بكى, وقال : يافاطمة تجرعي مرارة الدنيا اليوم لنعيم الاخرة غدا, فقالت فاطمة عليها السلام: يا رسول الله صلى الله عليه وآله، الحمد لله على نعمائه والشكر لله على الآئه.
ودخل النبي صلى الله عليه وآله على فاطمة عليها السلام وهي تطحن مع علي عليه السلام, فقال النبي صلى الله عليه وآله لأيكما اعقب, فقال علي عليه السلام لفاطمة فانها قد اعيت, فقامت فاطمة عليها السلام, فطحن النبي صلى الله عليه وآله مع علي لفاطمة.
وروي عن الامام جعفر الصادق عليه السلام انه: تقاضى علي عليه السلام وفاطمة الى رسول الله صلى الله عليه وآله في الخدمة، فقضى على فاطمة عليها السلام بخدمتها ما دون الباب, وقضىعلى علي عليه السلام بما خلفه, فقالت فاطمة عليها السلام: فلا يعلم ما دخلني من السرور إلا الله باكفائي رسول الله صلى الله عليه وآله تحمّل ارقاب الرجال.
وقد روي : "بينما النبي صلى الله عليه وآله والناس في المسجد ينتظرون بلال ان يأتي فيؤذن اذ أتى بلال فقال له النبي صلى الله عليه وآله ما حبسك يا بلال؟ فقال: اني اجتزت بفاطمة وهي تطحن واضعة الحسن عليه السلام عندها وهو يبكي فقلت لها: ايهما احب اليك, ان شئت كفيتك ابنك وان شئت كفيتك الرحى, فقالت: انا ارفق بابني , فأخذت الرحى فطحنت, فذاك الذي حبسني, فقال النبي صلى الله عليه وآله :رحمتها رحمك الله.
هذه الصورة العائلية واللقطة الفذة من حياة المجتمع الاسلامي والحياة النبوية الكريمة توضح لنا صور الحياة التعاونية وعلاقة الرجل بالمرأة, وعظمة التواضع عند قادة الاسلام وعظماء البشرية فمحمد صلى الله عليه وآله يساعد فاطمة عليها السلام ويعينها على طحن طعامها, وعلي يشاطرها العمل في المنزل.. وبلال يعرض خدماته على فاطمة عليها السلام فيعينها فينجز بعض اعمالها.. انها الصورة المثالية لحياة مجتمع صنعه الاسلام بمبادئه واخلاقه, وانها الصيغة التشريعية لحياة العائلة المثالية في الاسلام ولمكانة المرأة وعلاقتها بالزوج والاسرة في هذه الرسالة الالهية الخالدة.
روت أسماء بنت عميس عن فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله: ان رسول الله صلى الله عليه وآله اتاها يوما, فقال: اين ابناي؟ يعني حسنا وحسينا, قالت: اصبحا وليس في بيتنا شئ نذوقه.
فقال علي عليه السلام :اذهب بهما فاني اتخوف ان يبكيا عليك وليس عندك شئ.
فذهب بهما الى فلان.. فتوجه اليه رسول الله صلى الله عليه وآله فوجدهما يلعبان في مسربة بيد ايدهما فضل من تمر.
فقال: يا علي عليه السلام الا تقلب ابني قبل ان يشتد الحر عليهما؟ فقال علي عليه السلام اصبحنا وليس في بيتنا شئ, فلو جلست يا رسول الله حتى اجمع لفاطمة تمرات.
فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي ينزع لليهودي كل دلو بتمرة -اجرا عليه- حتى اجتمع له شئ من تمر فجعله في حجزته ثم اقبل, فحمل رسول الله صلى الله عليه وآله احدهما وحمل علي عليه السلام الآخر.
هذه صورة من حياة الكدح والصبر على شظف العيش ومعاناة اهل البيت عليهم السلام -علي وفاطمة والحسن والحسين- وهذا رسول الله يشاطرهم تلك الحياة الصعبة, يشاطرهم بروحه واحاسيسه وبجهده واهتمامه..
روي عن علي عليه السلام انه قال: ان فاطمة عليها السلام شكت ماتلقاه من اثر الرحى, فأتى النبي صلى الله عليه وآله سبي. فانطلقت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه وآله اخبرته عائشة بمجئ فاطمة عليها السلام. فجاء النبي صلى الله عليه وآله الينا وقد اخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم, فقال: على مكانكما, فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري, فقال. ألا اعلمكما خيرا مما سألتماني اذا اخذتما مضاجعكما, فكبرا اربعا وثلاثين وسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين, فهو خير لكم من خادم يخدمكما.
هذا الدرس هو تواضع القيادة في المجتمع الاسلامي وتعودها على ان تعيش بمستوى الطبقات الفقيرة الكادحة في مجتمع المسلمين. ففاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وغيرها من عامة المسلمين سواء, لا فارق بينها وبين غيرها, إلا فارق التقوى وميزة الاخلاص لله, لذا حرص رسول الله صلى الله عليه وآله ان يعلمها درسا في العبادة والتوحيد, ويوجه نظرها الى الارتباط بالله سبحانه وسحب العلائق من عالم الدنيا, كي تكون مثلا في حياتها ومركزها, وقدوة في التواضع وحب العمل.. ورائدة في المساواة والزهد في الحياة.
فأين الاسلام من الترف الفاجر الذي نعلم به ونشاهده اليوم لدى القادة والزعماء..
واين الاسلام من المحسوبية والمنسوبية المتفشية في صفوف الطبقات السائدة..
واين سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله واهل بيته عليه السلام من غطرسة الاغنياء وتبذير المترفين والى جانبهم الجياع والفقراء.
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله:- ".. ان الله جعل ذرية كل نبي في صلبه وجعل ذريتي في صلب هذا -يعني عليا-".
وتثمر شجرة النبوة وتلد فاطمة عليها السلام الحسن عليه السلام ثم الحسين عليه السلام فيستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وآله كاستقباله لميلاد فاطمة عليها السلام ويسميهما حسنا وحسينا.. ويحتلان من نفسه موقع الولد الحبيب من قلب ابيه الحنون, وتبدأ هذه العلاقة الابوية والروحية بين رسول الله صلى الله عليه وآله, وبين الحسن عليه السلام والحسين من يوم الميلاد, فهي علاقة النبوة بالامامة, وعلاقة حفظ الشريعة وقيادة الامة -بعد رسول الله صلى الله عليه وآله- بالتبليغ والرسالة, فكانت هذه العلاقة علاقة نسب وروح ومبدأ وهدف, لذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحتضن الحسن عليه السلام والحسين ابني فاطمة عليها السلام ويقول: "كل ولد اب فان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة عليها السلام فاني انا ابوهم وعصبتهم".
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله ما اراد, فقد ترك ولده الامامان الحسن والحسين عليهما السلام اثرهما البالغ على تاريخ هذه الامة وقيادة روح اليقظة وتجديد شباب الاسلام بالمعارضة والشهادة والدم الطاهر المعطاء في حياتهما وبعد مماتهما.
فقد امتدت روح الحسين الشهيد ثورة عارمة في ضمير الامة الاسلامية وقوة محركة لركودها واستكانتها, وكانت ذرية الحسن والحسين عليهما السلام واحفادهما وانصارهم فيما بعد طاقة محركة في تاريخ هذه الامة وقوة دافعة فيه, فكانوا منطلق الثورة والمعارضة لكل ظلم وطغيان على امتداد تاريخ هذه الامة. وهذا بعض ماكان يستهدفه رسول الله صلى الله عليه وآله من عنايته بالحسنين, وتأكيد ابوته لهما, والاعلان عن حبه وعطفه عليهما..
فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله قوله:
"هذان ابناي من احبّهما فقد احبني".
"الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة".
"ابناي هذان امامان قاما أو قعدا".
وشهد المسلمون حب رسول الله صلى الله عليه وآله للحسن والحسين وعنايته بتربيتهما والحث على حبهما والتمسك بهما.. فرفعوا مقامهما وخبروا مكانتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله..
ثم ولدت فاطمة عليها السلام بعد الحسين عليه السلام زينب الكبرى. وكانت ولادتها المباركة في اليوم السابع عشر من شهر رجب في السنة الخامسة من الهجرة النبوية. فزفت البشرى الى رسول الله صلى الله عليه وآله فاتجه الى ابنته فاطمة عليها السلام يشاركها فرحتها وسرورها, واتى مهنئا الى بيتها وسمى المولودة الجديدة "زينب" فحملت زينب هذا الاسم الوسام ليلمع عنوانا بارزا في جهاد الحسين عليه السلام وملحمة كربلاء ومأساة اهل البيت عليه السلام هناك.
ثم تحمل فاطمة عليها السلام بحمل آخر, فتلد بنتاً, فتكون الرابعة في ابناء فاطمة عليها السلام فيسري نبأ الميلاد الى رسول الله صلى الله عليه وآله ويأتي كعادته الى فاطمة عليها السلام, يسرها ويهنئها ويسمي المولودة "زينب الصغرى" ثم تلقب "بأم كلثوم".
وهكذا ولدت فاطمة عليها السلام اربعا ولم يمتد بها العمر الطويل فقد وافاها الاجل وهي لما تزل شابة غضة في مقتبل العمر, فالتحقت بأبيها رسول الله صلى الله عليه وآله .. وبالتحاقها بعالم الخلد والنعيم. بقي ابناؤها واكبرهم لم يتجاوز السابعة من عمره صغارا, في سن الطفولة يحدب عليهم ابوهم علي عليه السلام حدب رسول الله صلى الله عليه وآله على فاطمة عليها السلام في صغرها وصباها فدرجوا وشبوا وتربوا في ظلال علي عليه السلام الذي تربى في ظل رسول الله صلى الله عليه وآله، ونشأ على حب الاسلام والتفاني من اجله, فأثرت هذه الروح والتربية التي تلقاها الحسن والحسين عليهما السلام واختاهما ببيت النبوة في حياتهم وتكوينهم.. فكانوا كما اراد رسول الله صلى الله عليه وآله...
وهكذا تكشف لنا السنة النبوية ان فاطمة عليها السلام هي قاعدة اهل بيت الرسالة, وام الائمة عليهم السلام وامتداد النبوة, تحدّث رسول الله صلى الله عليه وآله عنها وعن زوجها وابنيها الحسن والحسين وعن حبه لهم وارتباطه بهم. لا ليعبر عن مشاعر القربى والنسب أو رابطة العاطفة وعلاقة الابوة... فهو رسول الله صلى الله عليه وآله لسان الوحي الذي لا ينطق عن الهوى, وهو الذي يجسد بكل كلمة وعمل يصدر عنه حكما وتشريعا ومفهوما رساليا للمسلمين, وهو داعية التوحيد والاخلاص الذي لا يحب ولا يبغض الا في الله ولله..
فما كان قوله في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام اذن الا تعبيرا عن مقامهم ومكانتهم عند الله سبحانه وتشخيصا لموقعهم ودورهم في حياة هذه الامة وتاريخها.
حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام:
"انا سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم".
وهذا يدل على ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يرى فيهم تجسيد الرسالة وتبلور العقيدة حتى جعل سلمهم سلمه, وحربهم حربه، وكما نعلم فان سلم رسول الله صلى الله عليه وآله هو سلم الله وحربه هي حرب الله تعالى.