وكان مبدأ حمل خديجة بها انّ النبي صلى الله عليه وآله يوما كان جالسا بابطح ومعه عمار بن ياسر والمنذر بن الضحضاح, وأبوبكر, وعمر, وعلي بن أبي طالب عليه السلام، والعباس بن عبد المطلب, وحمزة بن عبد المطلب إذ هبط عليه جبرائيل فناداه: يا محمد, العلي الاعلى يقرأ عليك السلام, وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحا, فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وكان محبا لها, وبها وامقا, فأقام النبي صلى الله عليه وآله أربعين يوما يصوم النهار ويقوم الليل, حتى إذا كان في آخر أيامه تلك بعث بعمار بن ياسر وقال: قل لها يا خديجة لا تظني أن انقطاعي عنك هجرة ولا قلى, ولكن ربي عزّ وجلّ أمرني بذلك لينفذ أمره, فلا تظني يا خديجة إلا خيرا, فإن الله عزّ وجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا, فإذا جنّك الليل فأجيفي الباب, وخذي مضجعك من فراشك, فإني في منزل فاطمة بنت أسد رضي الله عنها.
فلما كان في كمال الأربعين هبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد, العلي الاعلى يقرئك السلام, وهو يأمرك ان تتأهب لتحيته وتحفته, قال النبي صلى الله عليه واله: يا جبرئيل, وما تحفة رب العالمين وما تحيته؟ قال جبرائيل: لا علم لي.
فبينا النبي صلى الله عليه وآله كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل من سندس أو استبرق, فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله, وأقبل جبرائيل عليه السلام وقال: يا محمد, يأمرك ربك ان تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.
قال علي بن أبي طالب عليه السلام: كان النبي إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يرد الى الإفطار, فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي صلى الله عليه وآله على باب المنزل وقال: يابن أبي طالب, إنه طعام محرّم إلاّ عليّ؛ قال علي عليه السلام فجلست على الباب, وخلا النبي صلى الله عليه وآله بالطعام, وكشف الطبق فإذا عذق من رطب وعنقود من عنب وإبريق ماء, فأكل النبي صلى الله عليه وآله منه شبعا, وشرب من الماء ريّاً, ومدّ يده للغسل, فأفاض الماء عليه جبرائيل, وغسل يده ميكائيل, وتمندله إسرافيل عليهم السلام, فارتفع فاضل الطعام مع الإناء الى السماء.
ثم قام النبي صلى الله عليه وآله ليصلّي, فأقبل عليه جبرائيل عليه السلام فقال: الصلاة محرّمة عليك في وقتك, حتى تأتي الى منزل خديجة فتواقعها, فإن الله عزّ وجلّ آلى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذريّة طيّبة.
فوثب النبي صلى الله عليه وآله الى منزل خديجة.
قالت خديجة رضوان الله عليها: وكنت قد ألفت الوحدة, فكان إذا جنّني الليل غطّيت رأسي, وأسجفت ستري, وغلقت بابي, وصليت وردي, وأطفأت مصباحي, وأويت الى فراشي؛ فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة, إذ جاء النبي صلى الله عليه وآله فقرع الباب: فناديت: من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمّد؟ قالت خديجة: فنادى النبي صلى الله عليه وآله بعذوبة صوته وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإني محمد, قالت خديجة: فقمت فرحة مستبشرة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وفتحت الباب, ودخل النبيّ صلى الله عليه وآله المنزل.
كانت خديجة لما تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وآله هجرتها نسوان مكة فلم يدخلن عليها, ولا يسلمن عليها, ولا يتركن امرأة تدخل عليها, فاستوحشت خديجة عليها السلام لذلك, وكان جزعها وغمها حذرا عليه، فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة تحدثها من بطنها وتصبرها, وكانت تكتم ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله, فدخل رسول الله يوما فسمع خديجة تحدث فاطمة سلام الله عليها, فقال لها: لمن تحدثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني, قال: يا خديجة, هذا جبرائيل يخبرني أنّها أنثى, وأنها النسلة الطاهرة الميمونة, وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منه, وسيجعل من نسلها الأئمّة, ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه.
فلم تزل خديجة على ذلك الى أن حضرت ولادتها, فوجهت الى نساء قريش وبني هاشم أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء, فأرسلن اليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا, وتزوجت محمدا يتيم أبي طالب, فقيرا لا مال له؛ فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً.
فاغتمت خديجة لذلك, فبينا هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال, كأنهنّ من نساء بني هاشم, ففزعت منهن لما رأتهن, فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة فإنا رسل ربك إليك, ونحن أخواتك, أنا سارة, وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنّة، وهذه مريم بنت عمران, وهذه كلثم أخت موسى بن عمران, بعثنا الله إليك لنلي منك ما يلي النساء, فجلست واحدة عن يمينها, وأخرى عن يسارها, والثالثة بين يديها, والرابعة من خلفها؛ فوضعت فاطمة طاهرة مطهرة, فلما سقطت الى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوت مكة, ولم يبق في شرق الأرض وغربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور.
ودخل عشر من الحور العين, كل واحدة منهن معها طست من الجنة وإبريق من الجنة, وفي الإبريق ماء من الكوثر.
"ثم تناولت المرأة التي بين يدي خديجة فاطمة سلام الله عليها, وغسلتها بماء الكوثر" وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضا من اللبن, وأطيب ريحا من المسك والعنبر, فلفتها بواحدة, وقنعتها بالثانية, ثم استنطقتها فنطقت فاطمة سلام الله عليها بالشهادتين وقالت:
"أشهد ان لا إله إلاّ الله, وأنّ أبي رسول الله, سيّد الأنبياء, وأنّ بعْلي سيّد الأوصياء, ووِلْدي سادة الأسباط".
ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة منهن باسمها, وأقبلن يضحكن إليها, وتباشرت الحور العين, وبشر أهل السماء بعضهم بعضا بولادة فاطمة سلام الله عليها، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك.
وقالت النسوة: خذيها يا خديجة طاهرة مطهّرة زكيّة ميمونة, بورك فيها وفي نسلها.
فتناولتها فرحة مستبشرة, وألقمته ثديها فدرّ عليها فكانت فاطمة سلام الله عليها تنمو في اليوم كما ينمو الصبيّ في الشهر, وتنمو في الشهر كما ينمو الصبيّ في السنة.
"وصل على البتول الطاهرة... فاطمة بنت رسولك وبضعة لحمه, وصميم قلبه, وفلذة كبده, والتحية منك له".