حجّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حجة الوداع، ويقال عنها أيضاً: حجة الاسلام، وحجة البلاغ، وحجة الكمال، وحجة التمام، ولم يحجّ غيرها منذ هاجر إلى أن توفّاه الله، فخرج صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة مغتسلاً متدهّناً مترجّلاً متجرّداً في ثوبين صحاريين: إزارٍ، ورداء، وذلك يوم السبت لخمس ليالٍ أوستّ بقين من ذي القعدة، وأخرج معه نساءه كلّهنّ في الهوادج، وسار معه أهل بيته وعامّة المهاجرين والانصار، ومن شاء الله من قبائل العرب وأفناء الناس.
وعند خروجه صلّى الله عليه وآله وسلّم أصاب الناس بالمدينة جدريّ أو حصبة منعت كثيراً من الناس من الحج معه صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومع ذلك كان معه ـ على أقل الروايات ـ مئة ألف وأربعة عشر ألفاً، وأما الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك، كالمقيمين بمكة، والذين أتوا من اليمن مع عليّ أميرالمؤمنين عليه السلام .
فلما قضى صلي الله عليه و آله و سلم مناسكه، وانصرف راجعاً الى المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورة، وصل إلى غدير (خُمّ) من الجُحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيّين والمصريّين والعراقيّين. وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة؛ نزل إليه جبرئيل الأمين عن الله بقوله: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك). وأمره أن يقيم علياً علماً للناس، ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة، فأمر رسول الله أن يردّ من تقدّم منهم، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان، ونهى عن سَمُراتٍ (شجر الطلح) خمسٍ متقاربات دوحاتٍ عظام أن لا ينزل تحتهنّ أحد، حتّى إذا أخذ القوم منازلهم، فقُمّ ما تحتهنّ، حتى إذا نودي بالصلاة ـ صلاة الظهر ـ عمد إليهنّ، فصلّى بالناس تحتهنّ، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض ردائه على رأسه، وبعضه تحت قدميه، من شدّة الرمضاء، وظُلِّلَ لرسول الله بثوب على شجرةِ سَمُرةٍ من الشمس، فلما انصرف صلّى الله عليه وآله وسلّم من صلاته، قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الإبل، وأسمع الجميع، رافعاً عقيرته، فقال:
"الحمد لله ونستعينه ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضلّ، ولا مُضلّ لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أيها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير: أنه لم يُعَمّر نبيّ إلاّ مثلَ نصفِ عمر الذي قبله. وإني أوشك أن أدعى فأجيب. وإني مسؤول، وأنتم مسؤولون. فماذا أنتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنك قد بلّغتَ ونصحتَ وجهدتَ، فجزاك الله خيراً.
قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنّته حقّ وناره حقّ، وأن الموت حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟
قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: أللهمّ اشهد، ثم قال: أيها الناس ألا تسمعون؟
قالوا: نعم.
قال: فإني فرَط على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، … فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.
فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسول الله؟
قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرفٌ بيد الله عز ّوجلّ وطرف بأيديكم، فتمسّكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا.
ثم أخذ بيد عليّ فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، يقولها ثلاث مرات ـ وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرّات ـ ثم قال: اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب. ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) الآية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ألله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي، والولاية لعليّ من بعدي".
ثم طَفِقَ القوم يهنّئون أميرالمؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وممن هنّأه ـ في مقدّم الصحابة ـ الشيخان ـ أبوبكر وعمر كلّ يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. وقال ابن عباس: وجبت ـ والله ـ في أعناق القوم.
فقال حسّان بن ثابت: إئذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهنّ.
فقال: "قُل على بركة الله".
فقام حسان، فقال: يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادةٍ من رسول الله في الولاية ماضية، ثم قال:
ينـاديهم يـوم الغدير نبيّهم
بخمّ، وأسمع بالرسول مناديا
فقال فمن مولاكمُ ونبيّكم
فقالوا، ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبيّنا
ولم تلق منّا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عليّ فإنني
رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليّه
فكونوا له أتباع صدقٍ مواليا
هناك دعـا اللهم والِ وليّه
وكن للذي عادى علياً معاديا
وقد أقرّه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما فهمه من مغزى كلامه، وقرّظه بقوله: "لا تزال يا حسّان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك".
وقد أصفقت الأمة على هذا، وليست في العالم كله واقعة إسلامية غديرية غيرها، ولوأطلق يومه فلا ينصرف إلاّ إليه، وإن قيل محلّه فهوهذا المحل المعروف القريب من الجُحفة.
هذا مجمل القول في واقعة الغدير. وفقنا الله وإياكم لنسير على خطى صاحب الغدير ومن المتمسكين بولايتهم، راجين شفاعته لنا عند الله عزّ وجلّ يوم لا ينفع مال ولا بنون.