تعرض القبر الشريف للإمام الحسين في عصر العباسيين للهدم ثم الإعمار فكان أبرزه في عصر المتوكل حيث تولى المتوكل سنة 232ه الحاكم وكان شديد البغض للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام ولذلك عمد إلى هدم قبر الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام أربع مرات كان آخرها عام 247هـ. ثم جاء المنتصر العباسي ليعيد البناء مع توسيعه.
وأما أيام حكم المسترشد والقادر والموفق:
في عام (526هـ) سرق المسترشد العباسي جميع ما في ضريح الحسين من المجوهرات والأموال والقناديل والآثار والأشياء الثمينة المرصعة بالجواهر وأفرغ الضريح منها ليصرفها على تجهيز جيشه لكنه لم يمسّ البناء بسوء وكان المسترشد يخوض حروباً ضد مسعود السلجوقي وقد قتل في إحدى هذه الحروب في همدان.
وقد علل المسترشد عمله الشنيع هذا بالقول إن القبر لا يحتاج إلى هذه الأشياء!! والظاهر إنه لم يكتف بسرقة ما في القبر الشريف من النفائس والجواهر والتحف الثمينة والأموال, بل إنه سرق كربلاء أيضاً كما نقل ذلك العلامة المجلسي الذي روى ما نصه: (أخذ المسترشد من مال الحائر وكربلاء وقال: إن القبر لا يحتاج إلى خزانة وأنفق على العسكر فلما خرج قتل هو وابنه الراشد)(1), ولكن المصادر لم تطلعنا على باقي المسروقات خارج القبر الشريف وربما هان ذكر ذلك على حجم السرقة التي كانت من القبر (والجرح يسكنه الذي هو أألم)
ويذكر السيد مير علي تفاصيل أوسع وأحداث أكثر عن الأجواء العصيبة التي مرّ بها الشيعة في عصر المسترشد والأعمال الفظيعة التي ارتكِبت ضدهم وضدّ مقدساتهم ومنها هذه الجريمة باستباحة قبر سيد الشهداء وسبط الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) حيث يقول ما نصه: (وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة لما أخبر المسترشد بجمع ما اجتمع في خزانة القبر من الأموال والمجوهرات فأنفق على جيوشه قائلا: إن القبر لا يحتاج إلى خزينة, إلا أنه لم يتعرض للبناء بسوء, وقد كان المسترشد في هذا الوقت يستعد بتجهيز الجيوش وجمع العساكر لأنه كان قد اشتبك في أواخر عهده بحروب داخلية أثيرت عليه بمدة يسيرة من بعد وفاة السلطان محمود في سنة (525هـ) فكان بحاجة شديدة إلى المال, فتطاول على القبر الشريف وصادر أمواله فاستعملها في سبيل توطيد دعائم ملكه في تلك الحروب التي أثارها عليه مسعود أخو سلجوقشاه في أواخر سنة (526هـ) وقد نشبت معركة حامية بينهما دارت فيها الدائرة على المسترشد نفسه ووقع أسيراً في قبضة خصمه وبينما كان في خيمته إذ هجمت عليه جماعة من الباطنية وفتكوا به) (2)
ولم يكن ترك المسترشد للقبر الشريف دون أن يهدمه عن تورّع منه أو احترام وتقديس لصاحبه بل إنه كان يمر بظروف حرجة ويواجه انتفاضات داخلية وحروب خارجية فخاف أن يتألب الرأي العام ضده بتهديم القبر فاكتفى بسرقته وإلا ما الفرق بين سرقة القبر وتهديمه كما فعل أسلافه من قبل كالمنصور وهارون والمتوكل ؟؟
وقد وقعت النفائس الثمينة التي سرقها المسترشد من قبر الإمام الحسين (عليه السلام) بيد عدوه السلطان مسعود حيث ذكر ابن الطقطقا (3) وابن الجوزي (4): (إن الخليفة العباسي المسترشد سار ومعه الأموال المنهوبة لمقاتلة السلطان مسعود ولما تقابل الجيشان وقع المسترشد أسيراً بيد السلطان مسعود إذ خانه جيشه ثم أمر السلطان مسعود بقتل الخليفة العباسي فقتل شر قتلة ونهب معسكره)
وينقل السيد محمد حسن الكليدار صورة عن حجم تلك النفائس ومقدار التحف والجواهر والأموال المسروقة من القبر الشريف عن المجلسي (5) فيقول: (أجمع المؤرخون: عندما قتل المسترشد العباسي ونهب خزانته وجد فيها خمسة آلاف جمل وأربعمائة بغلا محملة بالطنافس والمجوهرات والنقود قدرت تلك الأموال بعشرة آلاف دينار مع العلم إن خزانته كانت فارغة عندما تأهب لقتال السلطان مسعود قبل نهبه خزانة الروضة الحسينية وكان قد حمل تلك المنهوبات معه ليوزعها على مستحقيها فيما لو كان منتصرا لكن المقادير شاءت أن ينتقم منه شر انتقام جزاء عبثه ونهبه خزانة الروضة الحسينية المقدسة فلاقى مصيره المحتوم) (6)
ويعقب الكليدار على هذه الرواية بالقول: (وهكذا ختم المسترشد حياته في أسوأ حال جزاء فعلته المنكرة وتطاوله على خزانة الروضة الحسينية المقدسة)
ولم تقتصر العاقبة السيئة على المسترشد جراء فعلته الشائنة بل امتدت إلى ابنه الراشد الذي شارك أباه في هذه الجريمة ولكنه لم يخرج للقتال مع أبيه وبقي في بغداد وحكم بعد أبيه لكن مسعود السلجوقي لم يمهله بعد قتل أبيه طويلا فلم يمر عام على حكمه حتى هاجم السلجوقي بغداد ودخلها فهرب الراشد منها لكن مسعود أرسل خلفه من يقتله فقتل قرب في قرية قرب أصفهان.
وقد وثق هذه الحادثة شعرا الشيخ العلامة محمد السماوي فقال:
والحادثُ الســــادسُ للمسترشدِ *** إذ فــــــعلَ الفعلَ الــــــذي لم يعهدِ
مدَّ إلى خزانــــــةِ الحسينِ كفْ *** وباعَ ما قد كـــــــان فيها من تحفْ
فقيلَ: لِمْ تمـــــــــــــــدّ للخزانة *** كفاً بلا رهــــــــنِ ولا ضمـــــــانة
فقال: ما الحسينُ بالمـــــــحتاجِ *** لكلِّ إكليـــــــــــــــلٍ وكـــــــلِّ تاجِ
وما درى أو كــــــــانَ في تلاهِ *** بأنّها شعــــــــــــــــــــــــــائرُ الإلهِ
وجنَّدَ الجنــــــــــــودَ ثم صارا *** لهمــــــــــدانٍ يبتــــــــغي انتصارا
ويقتلُ الملكَ بهـــــــا المسعودا *** فصـادفَ الــــــــمسترشدُ الموعودا
وقتلوهُ وهو فــــــــــي مراغه *** جــــــــــــــــــزاءَ ما سوَّغه وساغَه
وكان ذا في سنةِ الخمسمئة *** والتسع والعشرين دون التوطئة (7)
وفي الراشد العباسي يقول الشيخ السماوي:
وسوّغَ ابنـــه الذي قد ساغَه *** فقتلوه وهــــــــــو في مراغَه
ولم يفدهُ الجـــــــــندُ والعديدُ *** فإن بطــــــــــــشَ ربِّنا شديدُ
وما تهنّا الــراشدُ ابنه سوى *** أقلَّ من عــــــــامٍ وراهُ فثوى
قتلاً وكلٌّ سحبـــــــــوه جرَّا *** جــــــــــزاءَ ما كان به تجرَّا
أليسَ في المجـرِّبِ المتّضحِ *** من مدَّ للوقــــفِ يداً لم يربحِ
فكيفَ وقفُ خـــــــالدٍ منظّم *** شعـــــــائرُ اللهِ به تعظّم (8)
----------
1 ــ بحار الأنوار ج 10 ص 297
2 ــ تاريخ العرب ص 291
3 ــ الأحكام السلطانية
4 ــ المنتظم في تاريخ الأمم والملوك ج 10 ص 272
5 ــ بحار الأنوار ج 45
6 ــ مدينة الحسين ج 2 ص 188
7 ــ مجال اللطف في أرض الطف ص 56
8 ــ المصدر السابق ص 30
………………………………………………………………….
الحريق الكبير
في عام (407هـ/1016م) تعرض ضريح الحسين إلى حريق كبير أحرق المرقد بالكامل وسقطت القبة والأروقة وتحولت إلى رماد ولم يبق من الضريح سوى السور وقيل في سبب الحريق هو سقوط شمعتين كبيرتين في منتصف الليل قضاء وقدراً حيث يذكر ابن الأثير وابن الجوزي: (إن القوام أشعلوا شمعتين كبيرتين فسقطتا في جوف الليل على التأزير فأحرقتاه) غير أن الدكتور عبد الجواد الكليدار له رأي آخر حول هذا الحريق حيث يقول بعد أن يستعرض قولي ابن الأثير وابن الجوزي: (ويظهر من هذين التقريرين المقتضبين الرسميين أو شبه الرسميين, التاريخ في تلك العصور المنصرمة ولا زال سجل لما ترفعه السلطات عادة أو ترتضيه, بأن الحادث وقع عفواً, والحريق نشب بغير عمد أو قصد. ولكن نظرة عامة على حوادث سنة (407هـ) في كافة أنحاء الأقطار الإسلامية في عهد أحمد القادر بالله العباسي المعروف بنزعاته المتطرّفة وميوله الهدامة ضد حرية الفكر وتحريمها على المسلمين, وتحامله الشديد على آراء المعتزلة وتكفير من يعتنق مبادئهم, ثم تكفيره الفاطميين ولعنهم علناً, وخلقه روح البغضاء والعداء بين الطوائف الإسلامية بالفتاوى الدينية التي كان يحصل عليها من الفقهاء, كل ذلك ربما يلقي بعض الضوء على حقيقة أسباب الحريق الذي نشب في حرم الحسين (عليه السلام) في ربيع الأول سنة (407) من الهجرة لا سيما إذا أخذنا بنظر الاِعتبار حوادث تلك السنة من غرة المحرم (407هـ) من حوادث دامية كانت قد سبقت الحريق في حرم الحسين وكانت قد وقعت بين الطوائف الإسلامية في أفريقيا على عهد المعز بن باديس كما أعلنها ابن الأثير فذهبت ضحيتها الشيعة بأجمعهم قتلاً ونهباً وسلباً بجميع أنحاء أفريقيا إلى الفتن الداخلية التي تلت حادث الحريق مباشرة وفي مدة لا تتجاوز العشرة أيام وهي التي رواها ابن الأثير وابن الجوزي بأن:
(وفي الشهر نفسه اتصلت الفتنة بين الشيعة والسنة بواسط, ونهبت محال الشيعة والزيدية بواسط واحترقت وهرب وجوه الشيعة والعلويين فقصدوا علي بن مزيد واستنصروه)
ويستطرد الكليدار في تعداد تلك الحوادث التي مرت على الشيعة فيقول: (ثم أليس من الغريب أن تقع كل هذه الحوادث الدامية المتشابهة بأفريقيا وواسط في وقت واحد خلال الأشهر الأولى من تلك السنة على عهد القادر بالله العباسي المعروف بميوله الهدامة, ومع ذلك كله, يعتبر حادث الحريق في حرم الحسين أمراً عادياً حصل قضاءً وقدراً دون أي مسبب ؟ مع أنه قد توافرت وتعددت قرائنه ونظائره في نفس الوقت في بقية الأماكن على ما يحدثنا كل منهما بحيث أصبحت فتنة عامة وحركة واسعة النطاق شملت كل الأقطار الإسلامية دون استثناء إذ أنه بعد عشرة أيام من حريق حرم الإمام الحسين احترق أيضاً حرم العسكريين بسامراء واحترقت في نفس اليوم محلات الشيعة ببغداد في جانب الكرخ من محلة (نهر طابق) ومحلة (دار القطن) وقسم من محلة (باب البصرة) وامتدت دسائس القادر بالله العباسي فشملت بيت الله الحرام وسقط حائط قبر النبي ووقعت القبة الكبرى على الصخرة في بيت المقدس وهكذا من جراء دسائس القادر عم البلاء وساد الفزع في كافة الأقطار الإسلامية في وقت واحد.
ثم يلخص الكليدار الفظائع التي ارتكبها القادر العباسي خلال سني حكمه بالقول: (في الاثنين والأربعين سنة من حكمه الطويل (381ــ422هـ) فقد عبث القادر بالله بالبلاد الإسلامية, وأشعل النار فيها, وأراق الدماء وهدم البيوت والبلدان حتى الأماكن المقدسة واضطهد المسلمين بجميع طبقاتهم مستظهرا بالفقهاء في كل وقت, ومثل دوراً فاق فيه المتوكل (نيرون العرب) من حيث القسوة والفظاعة. بدأ أعماله الإرهابية بإثارة الفتن بين الطوائف الإسلامية في ذي الحجة من سنة (389ــ390) وقبلها ليختمها في أخريات حياته بالفتن التي تجددت ببغداد في سنة (422) والتي انتهت بأن:
(اعترض أهل البصرة قوماً من قم أرادوا زيارة مشهد علي والحسين فقتلوا منهم ثلاثة نفر ومنعت زيارة مشهد موسى بن جعفر)
وتؤكد العديد من المصادر التاريخية رأي الدكتور الكليدار الذي حلل الواقعة على ضوء المنهج التاريخي والحقائق التاريخية يقول ابن الأثير:
(في هذه السنة، في المحرّم، قُتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية. وكان سبب ذلك أن المعزّ بن باديس ركب ومشى في القيروان، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافضة، فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر ! فانصرفت العامّة من فورها إلى درب المقلى من القيروان، وهو مكان يجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعاً في النهب، وانبسطت أيدي العامّة في الشيعة، وأغراهم عامل القَيروان وحرّضهم).(2)
ولم يبق قبر الحسين على هدمه الأخير طويلا إذ سرعان ما بني في نفس السنة على يد ابن سهلان الرامهرمزي وزير سلطان الدولة البويهي وأحاط القبر بسور كما ذكر ذلك ابن الجوزي (3) وابن كثير (4) وهذا البناء هو الذي ذكره ابن ادريس الحلي في كتاب السرائر عند تحديده الحائر سنة (588هـ) ورآه ووصفه ابن بطوطة في رحلته عندما زار كربلاء عام (727هـ).
--------
1ــ تاريخ كربلاء وحائر الحسين ص161،171
2ــ الكامل في التاريخ ج 9 ص 294-295 ط. دار صادر/ في حوادث سنة 407هـ
3ــ المنتظم في تاريخ الأمم والملوك ج 4 ص 282
4ــ البداية والنهاية ج 12 ص 16
……………………………………………….
قام المتوكل بهدم قبر الإمام الحسين (عليه السلام) أربع مرات في الأعوام (233) و(236) و(237) و(247هـ) وجهد على إخفاء معالم القبر على الناس ولكن رغم التشدّد في منع الناس من زيارة القبر ووضع الجنود على مفارق الطرقات إلا أن القلوب الوالهة لم تنقطع عن زيارته في أشد الظروف وأقساها وقد وضع بعض الشيعة المخلصين علامات على القبر الشريف لكي لا يضيع أثره كما روى أبو الفرج الأصفهاني عن محمد بن الحسين الأشناني حيث يقول: (بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك فخرجنا زائرين نكمن بالنهار ونسير بالليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا فجعلنا نتسمّته ونتحرّى جهته حتى أتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق وأجرى الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق فزرناه وأكببنا عليه …. ثم ودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر وأخرجنا تلك العلامات وأعدنا إلى ما كان عليه…) (1)
وتاريخ هذا البناء هو في نفس السنة التي قتل فيها المتوكل أي في عام (247هـ) فما إن تولى المنتصر العباسي الخلافة بعد أبيه المتوكل حتى بُني القبر الشريف يقول السيد محمد حسن الكليدار آل طعمة: (ولما بلغ خبر استخلاف المنتصر إلى العلامة محمد بن الحسين الأشتياني توجه من ساعته إلى كربلاء ومعه جماعة من الطالبيين والشيعة فلما وصلوا قبر الإمام الحسين أخرجوا تلك العلامات وأعادوا للقبر معالمه القديمة, فعند ذلك أمر المنتصر العباسي ببناء قبر الإمام الحسين ووضع على القبر سارية لإرشاد زوار القبر وعاد إلى كربلاء عهد الطمأنينة والسلام) (2)
ويستعرض السيد عبد الجواد الكليدار بالتفصيل عهد المنتصر الذي عاش فيه الشيعة عصراً من الحرية والرخاء وازدهرت فيه المراقد المقدسة في النجف وكربلاء حيث يقول: (ففي تلك المدة القصيرة من حكمه ــ أي حكم المنتصر الذي دام ستة أشهر ــ تلافى المنتصر أخطاء أبيه ويحدثنا التاريخ بما أسداه من الخدمات الجليلة نحو البيت الطاهر وشيعتهم ومن العناية والاهتمام بقبر الحسين والإمام علي (عليهما السلام) وعدم التعرض لقبور الأئمة ولقبور آل أبي طالب بصورة مطلقة) (3).
ويقول السيد أمير علي (لم تنفرج الكربة عن كربلاء إلا بقتل المتوكل وقيام المنتصر وكان المنتصر بخلاف أبيه ورعاً عادلاً عفيفاً أميناً يحرص كل الحرص على توفير أسباب السعادة والرفاهية للشعب فشيّد من جديد قبر علي والحسين وأطلق أوقاف أهل البيت التي كان المتوكل قد صادرها كما منع التعرض للذميين، ولكنه توفي لسوء الطالع بعد حكم لم تطل مدته غير ستة أشهر…) (4)
لكن هذه الـ (ستة أشهر) كانت فترة استثنائية في العهد العباسي الدكتاتوري المظلم الذي استخدمت فيه سياسة الإرهاب مع الشيعة, فتنفس الشيعة الصعداء في حكم المنتصر وأصبحت قبور الأئمة معالم شاخصة للزوار وأصبح الناس يتهافتون عليها من كل مكان يقول السيد محسن الأمين: (وبنى ــ أي المنتصر ــ على المرقد الشريف ميلاً عالياً يرشد الناس إليه وشجع الناس على زيارته) (5)
وبقي بناء المنتصر هذا حتى عام (283هـ) عندما سقطت القبة على الزوار في عهد الموفق ابن المتوكل بصورة مفاجأة وقد صادف سقوطها يوم زيارة عرفة في التاسع أو العاشر من ذي الحجة وهو يوم يكثر فيه الزوار, أما سبب سقوطها فلا يعرف بالضبط هل كان طبيعياً أم أن يداً خفية كانت وراء ذلك ؟ غير أن هناك مؤشرات تدلّ على أن سقوط القبة على الزائرين كان مدبراً كما يقول السيد عبد الجواد الكليدار حيث يثير العديد من الأسئلة حول هذا السقوط المفاجئ فيقول: (غير أن بناء المنتصر هذا لم يعش أكثر من ربع قرن لسقوطه وانهياره مرة واحدة في ذي الحجة سنة (273هـ) على عهد الموفق ابن المتوكل الأمر الذي يدل ــ حسب القرائن ــ على أن تلك السياسة الجائرة والخطة القاسية التي كان قد ارتسمها المتوكل في عهده تجاه قبر ريحانة الرسول الأكرم وزائريه كانت تطبق بحذافيرها طوال هذه المدة وإن كانت قد تبدلت أساليبها أو تغيرت أشكالها وعناوينها.
ولوقوع هذا الحادث الفجائي الغريب لحرم الحسين (عليه السلام) أهميته التاريخية إذ نستدل منه مبلغ ما كان يكمن قلوب كثير من العباسيين من بعد الرشيد والمتوكل من الغيظ وعدم الإرتياح لما كان يحيط بقبر الحسين (عليه السلام) من الجلال والعظمة, ومن التقديس له في نفوس المسلمين لا سيما وإن الموفق من هذه الناحية كان على شاكلة أبيه لم يتورع عن ارتكاب مثل هذه الجريمة ولذلك أسدل التاريخ الستار على هذا الحادث دون أن يدخل في التفاصيل…) (6)
ولا يوجه الكليدار أصابع الإتهام إلى السلطة العباسية في سقوط القبة دون دليل تاريخي وقرينة بيّنة رغم أن شخصية الموفق العدائية لأهل البيت تدعم بقوة الرأي الذي ذهب إليه وهو ضلوعه المباشر في سقوط القبة حيث يذكر الرواية التي تثبت ذلك والتي روتها كثير من المصادر المعتبرة وهذه الرواية يرويها أبو الحسن علي بن الحسن بن الحجاج يقول فيها: (كنا جلوساً في مجلس ابن عمي أبي عبد الله محمد بن عمران بن الحجاج وفيه جماعة من أهل الكوفة من المشايخ… وكانوا قد حضروا يهنئونه بالسلامة لأنه حضر وقت سقوط سقيفة أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ذي الحجة سنة (273هـ) فبينما هم قعود يتحدثون إذ حضر المجلس إسماعيل بن عيسى العباسي فأحجمت الجماعة عما كانت فيه وأطال إسماعيل الجلوس…)
وفي هذه الرواية دليل ساطع على أن سقوط القبة كانت بأمر من الموفق فسياسة العباسيين مع أهل البيت كانت في جميع مراحلها ــ سوى فترات ضئيلة ــ متساوية في المنهج العدائي وكانوا يقتلون على التهمة والظنة وكانوا يزرعون الجواسيس بين الناس وخاصة على العلويين وقد ذكر هذه الرواية التي نقلها الكليدار السيد ابن طاووس (7) والشيخ المجلسي (8) والسيد الأمين (9)
وينوّه الكليدار إلى أن الصمت الذي رافق هذه الحادثة كان بسبب أجواء الخوف والرعب التي سادت في عهد الموفق الذي كان يخوض حرباً مع صاحب الزنج وقد نهب النفائس التي كانت موجودة داخل القبر الشريف ليستعين بها في حربه وقد رأى الناس وحشيته وهمجيته في تعذيب وقتل أسرى صاحب الزنج أمامهم وقد نقلت المصادر صوراً من عمليات وأساليب هذا التعذيب ما تقشعر له الأبدان وتشمئز منه النفوس (10) فمن الطبيعي أن يحاط حديث سقوط القبة بأسوار التكتم والصمت.
يقول الكليدار: (ولعل كثير من المسائل أيضاً ستبقى مجهولة إلى الأبد على هذا النمط لعدم إمكان الجهر والتصريح بها في حينها نظراً لما يحيط الرأي العام من ظروف وأحوال سياسية خاصة. ولذلك فلا يعرف اليوم عنها شيء وهل كان سقوط السقيفة في الحقيقة أمراً طبيعياً لم يكن للسياسة أي دخل فيه ؟ أم كان للسلطة الحاكمة يد في الأمر كما سبقت نظائره على عهد المنصور والرشيد والمتوكل بصورة علنية مكشوفة ؟ وإنما أتى الهدم في هذا الدور بتلك الكيفية الغامضة وبشكل أفظع من ذي قبل لأنه كان في عين الوقت هدماً للقبر المطهر وقتلاً للنفس البريئة ممن أتوا في مثل هذا الوقت لزيارة الحسين (عليه السلام) وهذا ما يجعل الباحث يتردد في قبول الأمر من الوجهة الطبيعية لأن الفرض الأول من أن الحادث كان طبيعياً لوجود بعض الخلل في أسس البناء نفسه لا يثبت أمام الحقائق التاريخية لأن البناء كان حديث العهد إذ ذاك ولم يتجاوز عمره يوم انهياره خمسة وعشرين سنة فلا يعقل والحالة هذه إن بناءً جديداً ينهار من تلقاء نفسه وبتلك الصورة الفجائية وبلا سابق إنذار على رؤوس الزائرين….)
ثم يستشهد الكليدار برواية ابن الحجاج التي تثبت رأيه. كما ينوّه إلى محاولة عباسية أخرى لهدم قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل داود العباسي ابن عم إسماعيل بن عيسى العباسي الذي حضر مجلس ابن الحجاج فسكت الحاضرون خشية منه فيقول: (ولو أخذنا بنظر الاعتبار ما جاء في ذيل الخبر المتقدم بسنده عن إسماعيل بن عيسى العباسي من إن ابن عمه داود العباسي كان قد حاول في مثل هذا الوقت هدم قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) سراً تنكشف لنا حقيقة الأمر في حادث سقوط السقيفة على رؤوس الزائرين في حرم الحسين (عليه السلام) على عهد الموفق الذي كان يسير على سيرة آبائه وإن الحادث لم يكن طبيعياً بوجه من الوجوه وإن للسلطة الحاكمة كان دخل في تدبير الأمر…)
وبقي القبر الشريف مكشوفاً لمدة عشر سنوات حتى قام ببنائه الداعي الصغير محمد بن زيد بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن المجتبى بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ملك طبرستان وذلك عام (283هـ): (فشيد قبة عالية على القبر لها بابان ومن حول القبة سقيفتين ثم عمَّر السور وبنى المساكن حول القبر….)
-----------
1ــ مقاتل الطالبيين ص 204
2ــ مدينة الحسين ج 2 ص 147
3ــ تاريخ كربلاء ص 146
4ــ تاريخ العرب ص 248 ــ 249
5ــ أعيان الشيعة ج4 ص 350
6ــ تاريخ كربلاء ص 193
7ــ فرحة الغري ص 61
8ــ البحار ج 9 ص 679 ــ 680
9ــ أعيان الشيعة ج 3 ص 588 ــ 590
10ــ ثورة الزنج / الدكتور فيصل السامر ص 123
---------
المصدر بتصرف: العتبة الحسينية