إذا تأملنا حركة الإمام الحسين (عليه السلام) من المدينة إلى كربلاء، وحلّلنا ما فيها من توجيهات وخطابات ومواقف، يتضح لنا أنَّ نهضته (عليه السلام) في عاشوراء كانت مبنيّة على تعاليم القرآن الأساسية المتينة، وأنّ معرفة هذه المباني تجعل من هذه النهضة قدوة لكلِّ محبيّ القرآن ومتّبعيه؛ ذلك لأنَّ هذه النهضة تُبيّن الوظيفة القرآنية لكلِّ المسلمين على مدى التاريخ، أي: إنّه كلّما واجه المسلمون ظروفاً مشابهة لظروف زمان الإمام الحسين (عليه السلام)، تعيّن عليهم بناءً على تلك المباني القرآنية أن يسلكوا سبيل الإمام الحسين (عليه السلام) في حركته الإصلاحية الشاملة.
وبعبارة أُخرى: من خلال استنباط المباني القرآنية لنهضة عاشوراء تتحول حركة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى حركة قرآنية، وتصبح قدوةً لكلِّ المسلمين.
المقصود من المباني القرآنية:
إن المراد من المباني القرآنية هي النظريات المسلّمة المستنبطة من تعاليم القرآن الكريم، والتي شكّلت أرضية حركة الإمام الحسين (عليه السلام). وبعبارة أُخرى: هي المستندات القرآنية العامة. والتي منها المستندات والنظريات المستنبطة لنهضة عاشوراء.
هذه المباني تشمل أوامر الله تعالى والتي وجهها بشكل مباشر إلى كلّ المسلمين، على الصعيد الاجتماعي والتربوي والسياسي والثقافي والجهادي؛ كما تشمل أيضاً التعاليم القرآنية غير المباشرة، والتي يمكن استخراجها من كلمات وسيرة الإمام الحسين (عليه السلام)، بالاستعانة بقاعدة الجري والتطبيق، وقاعدة بطون القرآن.
إذاً؛ استنباط المباني القرآنية لنهضة عاشوراء، يتم من خلال استخدام القواعد والطرق التفسيرية القرآنية، كقاعدة الجري والتطبيق، وقاعدة حجية ظواهر القرآن، وأُسلوب التفسير الروائي، والتفسير الإشاري (الباطني).
مصادر استنباط المباني القرآنية لنهضة عاشوراء:
إنَّ المصادر التي يمكن الاعتماد عليها لاستنباط المباني القرآنية لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، هي عبارة عن:
كلمات الإمام الحسين (عليه السلام).
رسائل الإمام الحسين (عليه السلام).
سلوك الإمام الحسين (عليه السلام) .
فهذه المصادر نابعة من قلب هذه الثورة، ومستندة إلى قائدها العظيم.
أهمُّ مباني نهضة عاشوراء:
أوّلاً: إعلاء كلمة اللّه تعالى
نُقل أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أثناء مسيره إلى كربلاء، التقى بالفرزدق في منزل صفاح، وتحدّث معه، وبيّن أنَّ هدفه النهائي بل الأساسي من هذه النهضة المباركة هو إعلاء كلمة الله تعالى، وإيجاد الآليات والضمانات التي تساعد في الحفاظ عليها، فقال (عليه السلام): "وأنا أوْلى مَن قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله؛ لتكون كلمة الله هي العليا"[1].
وعند ملاحظة هذا المبنى الذي جعله الإمام الحسين (عليه السلام) أحد أهمّ مباني نهضة عاشوراء بل هو المنطلق الأساس لها نجد كلامه (عليه السلام) قد نظر واستند به إلى آية قرآنية؛ حيث يقول الله تعالى: (وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا)[2]
ثانياً: نصرة الدين وإعزاز شريعة الله تعالى
إن هذا المبنى وهذا الهدف من أهم الأهداف في الإسلام ومن الأُسس التي تستحق أن يُبذل من أجلها الغالي والنفيس، بل حريّ بالمرء أن يبذل مهجته من أجل ذلك، وهذا الهدف السامي قد صرح به الإمام (عليه السلام)، وبيّن أنه مأخوذ بنظر الاعتبار في نهضته المباركة من خلال كلامه الذي مرّ معنا في قوله (عليه السلام) للفرزدق في منزل صفاح: "وأنا أوْلى مَن قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله"
فإنَّ المنطلقات التي بيّنها الإمام الحسين (عليه السلام) في كلمته هذه والتي تبيّن أحد أهمّ منطلقات ثورة الإصلاح مرتكزة إلى آيات قرآنية متعددة؛ بل إنّ روح القرآن الكريم بشكل كلّي، تدعو إلى نصرة دين الله وإعزازه.
قال تعالى: (حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ)[3]، وقال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) [4] .
نعم، لقد نصر الإمام الحسين (عليه السلام) دين الله سبحانه، كما نصر الله تعالى نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد انتصر دم الإمام الحسين (عليه السلام) على سيف الظالمين، كما تحقق هدفه في عزّة دين الإسلام؛ فقد استمر هذا الدين الحنيف بفضل تلك الدماء الزاكيات، فبعد أربعة عشر قرناً، لا تزال نهضة عاشوراء حيّة، ولا تزال قدوة لكل أهل العالم، وأمّا أعداء الحسين (عليه السلام) فقد اندحروا واندثروا في غياهب الزمن.
ثالثاً: الجهاد لحفظ الإسلام
إن مبدأ الجهاد وتشريعه في الديانات السابقة من الأمور المسلّمة؛ فقد نص القرآن الكريم على حدوث معارك بين جبهة الحق والباطل، وذلك في زمن النبي طالوت، وذلك في قوله تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّـهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّـهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [5]، وهذا المبدأ والهدف جاء أيضاً في كلام الإمام الحسين (عليه السلام)، عندما لاقى الفرزدق في مسيره إلى كربلاء، حيث قال: "يا فرزدق، إنّ هؤلاء القوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين؛ وأنا أوْلى مَن قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله؛ لتكون كلمة الله هي العليا"[6]
ونُقل أيضاً أنّه لمّا دعا مروان الإمام الحسين (عليه السلام) إلى بيعة يزيد في المدينة، قال الإمام (عليه السلام): "وعلى الإسلام السلام؛ إذ قد بُليت الأُمّة براع مثل يزيد"[7]. فكلمة الإمام الحسين (عليه السلام) هنا تشير إلى الفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تفشى في المجتمع آنذاك؛ فقد كان أصل الإسلام في تلك الظروف عُرضة للخطر.
ونتيجة لهذا؛ أصبح الجهاد واجباً في سبيل حفظ الإسلام؛ لأنَّ حفظ الإسلام أهمُّ الواجبات الإلهية.
فهذا الخطاب الحسيني يُشير إلى أحد أهمّ مرتكزات نهضة عاشوراء، ألا وهو الجهاد في سبيل الله. ولا يخفى، فإنَّ الجهاد أحد المفاهيم القرآنية المهمّة في الإسلام، والتي أُشير إليها في آيات متعددة، وللجهاد أهداف وغايات مصيرية لا تتحقق إلّا به.
ويمكن القول: إنَّ الأهداف الأساسية للجهاد الإسلامي هي:
الدفاع عن الدين الإسلامي في مقابل هجوم الأعداء، والحفاظ على المسلمين، سواء أنفسهم، أو أموالهم، أو أعراضهم.
تخليص المستضعفين من قيود الشرك والكفر والظلم، ونشر الإسلام في الأرض بفضائله الحسنة، وأخلاقه القيّمة التي تنسجم مع الفطرة الإنسانية، وتتلازم مع العقل السليم. إلى غير ذلك من الفوائد المترتبة على الجهاد.
من هنا؛ فإنّ جهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، كان تحقيقاً لتلك الأهداف الإنسانية والإسلاميّة، والقرآنية، واستُشهد في سبيل ذلك. قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [8]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[9]
رابعاً: طلب الإصلاح
رُوي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كتب وصية، وأودعها عند أخيه محمد بن الحنيفة في المدينة. وقد ذكر في هذه الوصية أهداف نهضته (عليه السلام)، جاء فيها:"إنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي؛ أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب"[10].
فقد كان أحد أهداف ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، هو إصلاح الأُمّة الإسلامية، في كافّة الأبعاد الفردية والاجتماعية والعقائدية والسياسية والاقتصادية.
ويُعتبر طلب الإصلاح أحد أهمّ أهداف الأنبياء، والتي بُيِّنت في القرآن الكريم بشكل واضح، فقد جاء في القرآن الكريم على لسان النبي شعيب (عليه السلام): (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)[11]. وقال تعالى: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)[12]
خامساً: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر
لقد عدَّ الإمام الحسين (عليه السلام) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد أهداف نهضته الأساسية؛ وهو صريح وصيته المشهورة التي جعلها عند أخيه محمد بن الحنفية في المدينة فيقول (عليه السلام): "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب".
إنَّ الأمر بالمعروف وسيلة لحفظ فضائل المجتمع، والتذكير المستمر بها، وبالوظائف التي على المسلم أن يتحلى بها، ويعمل على وفقها، كما أنّ النهي عن المنكر وسيلة تنقية دائمة للمجتمع، وتصفيته من الرذائل والانحرافات الفكرية والعملية.
ومن هنا؛ يُعدُّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروع الدين، وقد أكّد القرآن على هذين المبدأين مراراً، وعدّهما واجباً شرعياً، قال الله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[13]، بل وصف الذين يقومون بالأمر بالمعروف وينهون عن المنكر بأنهم خير أُمّة؛ فقال عزَّ من قائل: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ)[14].
نعم، لقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) في صدد إجراء هذا الواجب القرآني، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولهذا الفرع الإسلامي والمبدأ القرآني مراحل ومراتب، كما ذُكرت في الفقه الإسلامي، وهي كما يلي:
الإنكار القلبي: بأن يستنكر المؤمن أيّ أنواع المنكر التي يراها استنكاراً في قلبه؛ بحيث تظهر آثار ذلك الإنكار على وجهه، من الغضب، وعدم الرضا، وما شاكل هذه الأُمور.
الإنكار اللساني: يعني عندما يرى المؤمن أمراً منكراً قد تلبّس به البعض، فعليه أن يؤنِّبهم بلسانه، وهذا الأُسلوب بدوره على مراحل؛ لأنّه لا بدّ أن يبتدئ أوّلاً بالنصيحة والكلام الطيب، وبأُسلوب ليّن، مستدلاً على ما يقول، فإذا لم يؤثر ذلك، استخدم اللهجة الحادّة، والأُسلوب الخشن في الكلام.
الإنكار العملي: وهذه هي المرحلة الثالثة في النهي عن المنكر، وهي المنع العملي عن المنكرات، أي: وضع حدٍّ لأعمال المفسدين، والحيلولة دون وقوع أعمالهم المنكرة في المجتمع، وهذا أيضاً بدوره على مراحل، والتي آخرها اللجوء إلى الحرب والقتال، وهذه المرحلة هي آخر مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تُنفَّذ إلّا عندما تكون المراحل السابقة غير مؤثّرة.
ولا يخفى، فإنّ تنفيذ هذه المرحلة وتطبيقها في المجتمع إنّما هو بيد الإمام (عليه السلام)، أو ولي أمر المسلمي.
وهذا ما نجده من سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) في تعامله مع طاغية زمانه، الذي ارتكب أبشع أنواع المنكرات والمحرمات، وترك الواجبات، ففي حقيقة الأمر أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) عرض برنامجاً سياسياً وعملياً متكاملاً؛ لمبارزة الطاغوت ضمن إطار النهي عن المنكر، وكما بيّنا في مراحل النهي عن المنكر؛ فإنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ابتدأ بنصح أصحاب السلطة، ثمّ بيّن انحرافاتهم وظلمهم، وشناعة أعمالهم، ثمّ كانت المواجهة والمبارزة المسلّحة، كلّ ذلك ضمن إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سادساً: الحفاظ على سنَّة النبي (صلى الله عليه وآلة).
إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) في وصيته ومجمل أقواله كان يدعو الناس إلى سنّة النبي (صلى الله عليه وآلة) والحفاظ عليها، والعمل بها وإحياء ما غُيّب منها، وتفنيد ما حُرّف فيها، فقد عُدّ ذلك أحد أهمّ أهداف نهضة كربلاء المباركة: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب"، وقوله (عليه السلام): "أنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه؛ فإنّ السنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت"[15].
إنّ سنّة النبي (صلى الله عليه وآلة) تُعدُّ إلى جانب القرآن الكريم وسيلةً مهمة لإرشاد المسلمين؛ فكما أنّ كلّيات الدين تؤخذ من القرآن، فإنّ جزئيات الإسلام تؤخذ من السنّة؛ إذ إنّ أقوال وأفعال النبي (صلى الله عليه وآلة) تُعدّ التفسير الحقيقي للقرآن الكريم؛ فقد قال الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )[16].
ويجب على جميع المسلمين أن يتبعوا سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، ويدعوا غيرهم إليها، ويدافعوا عنها ويحافظوا عليها من الاندراس والتحريف والتزييف؛ لأنّ الدفاع عن السنّة دفاع عن الدين، وترك العمل بها ترك للدين، فليس للمسلمين الحقُّ في مخالفة أوامر النبي صلى الله عليه وآله أو ارتكاب نواهيه، والآيات القرآنية بهذا الصدد كثيرة:
منها: قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ)[17]، ومنها: قوله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)[18]، ومنها: قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)[19]، وقال عز وجل أيضاً: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا...)[20]
نعم، إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضة عاشوراء كان في صدد إحياء سنّة النبي (صلى الله عليه وآلة)، والدفاع عنها، ونقلها إلى حيز التطبيق في حياة المسلمين؛ لأنّ تعاليم النبي (صلى الله عليه وآلة) كانت قد أُهملت آنذاك، كما أنّ البدعة قد أُحييت وظهرت.
سابعاً: الهجرة
عزم حاكم المدينة على تنفيذ أوامر يزيد القاضية بقتل الإمام الحسين (عليه السلام)؛ فخرج (عليه السلام) من المدينة ليلاً. ولمّا خطّطوا لقتله (عليه السلام) في مكة أيضاً، خرج منها أيضاً، وتوجّه إلى العراق. وقال في جوابه لرجل سأله: ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدّك رسول الله( صلى الله عليه وآلة)؟ـ: "إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت"[21].فيُستفاد من كلامه (عليه السلام) أنّ المؤمن عندما تتعرض حياته للخطر لا يجوز له الصبر على ظلم الظالم، وأنّ أقلّ ما ينبغي فعله هو الهجرة.
وهذا التحرك من الإمام الحسين (عليه السلام)، كان على أساس الآيات القرآنية التي توجب الهجرة على مَن يواجه الصعاب في بلاده، على نحوٍ لا يستطيع معه إقامة واجباته الدينية، أو تصبح نفسه ومَن يرتبط به في خطر، كما حدث للنبي صلى الله عليه وآله في مكة، قال الله تعالى: (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [22].
وبيّن القرآن الكريم أنّ مَن قُتل في طريق هجرته فإنّ أجرهُ على الله سبحانه، وأنّ المهاجرين في سبيل الله لهم أجر عظيم.
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّـهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّـهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [23]. وقال عز مَن قال: (. . . وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [24]، وقال عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّـهِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) [25].
ثامناً: مواجهة الظلم:
تكرر من الإمام الحسين (عليه السلام)، ذكر حديث عن النبي (صلى الله عليه وآلة) في رسالته (عليه السلام) إلى رؤساء أهل الكوفة، وفي خطابه لأصحابه، وفي خطابه لجيش الحرّ، فكان (عليه السلام) يستدل بذلك الحديث النبوي كثيراً، ويطبقه على بني أُميّة. وهذا الحديث هو: "مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (عليه السلام)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفعل، ولا قول كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله"[26].
إنَّ هذا التوجيه النبوي والذي نظَّم الإمام الحسين (عليه السلام) ثورته في كربلاء على أساسه ـ مأخوذ من القرآن الكريم، فالقرآن يُقبّح الظلم، ويستنكره في آيات كثيرة، ويعدُّ الظلم سبباً في عذاب بعض الأُمم، بل أوجبت الآيات العقاب على مَن مال إلى الظالمين وركن إليهم.
قال الله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ)[27]. ثمّ يجيز الله تعالى الجهاد لكلّ مظلوم، فيقول: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[28].
نعم، إنّ دين الله تعالى، وكذا الإمام الحسين (عليه السلام)، بل وجميع الأُمّة الإسلامية كانوا تحت ظلم يزيد وبني أُميّة. وقد صوّر الإمام الحسين (عليه السلام) هذا الظلم والقائمين به بقوله: "يزيد رجل فاسق، معلن بالفسق، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب والفهود، ويبغض بقية آل الرسول"[29]، "قاتل النفس المحترمة... ومثلي لا يبايع مثله"[30]، وقال أيضاً: "يا فرزدق، إنّ هؤلاء القوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين"[31]، "وأحلّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله، واستأثروا بالفيء"[32]. وفي مثل هذه الشرائط والظروف، فإنّ وظيفة كلّ مسلم وطبقاً لما جاء في القرآن الكريم أن يهبَّ لمبارزة الفساد والظلم، وهكذا فعل إمامنا الحسين (عليه السلام).
تاسعاً: الحرية والتحرير
كلمة الحرية أحبُّ الكلمات التي ذُكرت في تاريخ البشر، لكن هذه الكلمة لها معانٍ متفاوتة، من جملتها الاستقلال (الحرية الفلسفية)، الاختيار، الحرية على صعيد التربية، الحرية في الحقوق (على صعيد فلسفة الحقوق)، الحرية في مقابل العبودية (في الحقوق المدينة والعالمية) كما تأتي بمعنى الشرف والكرامة.
وإن بحث الحرية في نهضة عاشوراء هو بمعنى الشرف والكرامة، كما تكون بمعنى إباء الذل، والحفاظ على عزّة النفس، وتكون بمعنى الشهامة أيضاً[33]، وهناك نماذج عديدة تثبت هذا المعنى من خلال كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)، وتأكيده على القيم النبيلة للنهضة الحسينية:
منها: ما نُقل عن الإمام الحسين (عليه السلام)، أنّه قال لأعدائه: "إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرباً كما تزعمون"[34].
يعني أنّ التدين والخوف من الآخرة يوجبان التقوى، فلا يجيزان للإنسان أن يظلم الآخرين، ولكن هناك طريق آخر فطري يمنع من الظلم، ألا وهو كون الإنسان حرّاً؛ إذ كلّ إنسان ولد حرّاً، فهو يحب الحرية والتحرر، واحترام حقوق الناس.
ومنها: إعفاء أتباعه من الوفاء ببيعتهم، وهو إعطاء أصحابه وأنصاره مطلق الحرية في الاختيار بين الاشتراك في الحرب والانصراف إلى بلدانهم، وهذا يدلّ على أنّ إجبار الآخرين على خلاف مرادهم أمر مرفوض في مدرسة أحرار العالم. وهكذا كان في عاشوراء، لمّا أعفى الحسين (عليه السلام) أصحابه من بيعتهم وفي عدّة مرات، وذلك في طريقه من مكة إلى الكوفة، فقد أعطاهم مطلق الحرية في أن يذهبوا أو يبقوا معه، حتى أنّه أخبر أصحابه بالمصير المحتوم، فقال: "فإنّكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلّكم"[35].
نعم، إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) يريد ألّا يبقى معه إلا مَن رافقه عن بصيرةٍ ورضًى، وإحساس بالوظيفة، وعشق له (عليه السلام) ومنها: روح نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) نفسها؛ فقد كانت لتحرير الناس من ظلم بني أُميّة واستبدادهم، وتخليصهم من أنواع الانحرافات الفكرية والأخلاقية.
وتُعدُّ طريقة الإمام الحسين (عليه السلام) هذه في الوصول إلى الحرية، وتخليص الناس وتحريرهم نوعاً من اتباع القرآن الكريم وسنّة النبي الأمين (صلى الله عليه وآلة)؛ لأنّ تحرير الناس أحد أهداف رسالة النبي (صلى الله عليه وآلة) التي ذكرها القرآن، فجعل رسالة النبي (صلى الله عليه وآلة) ترفع القيود والأغلال عن أيدي الناس وأرجلهم، وتخلّصهم من العقائد الباطلة، والأعمال الخرافية والظلم، قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[36]. كما أنّ القرآن عدَّ رسالة النبي موسى (عليه السلام) عند مقابلته فرعون تحريراً للبشر من العبودية والذل، ونجاةً لهم[37].
عاشراً: العزّة ورفض الذل
أحد أهمّ تعاليم ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) السياسية هي عدم الرضوخ للذل، وهذا من الشعارات والرسائل العاشورائية التي كانت مثالاً يحُتذى به، وقدوةً لكلّ الشيعة، بل وكلّ الأحرار على مرّ التاريخ. فإنّ السائرين على خطى الحسين (عليه السلام) يرجّحون الموت في عزٍّ على الحياة في ذلٍّ: "موت في عزّ خير من حياة في ذلّ" [38].
وهكذا هم الحسينيون، يرون سعادتهم في الشهادة، والعيش مع الظالم خسارة وذلة: "وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما"[39]، وقد أصبحت كلمة الإمام الحسين الخالدة: "هيهات منّا الذلة"[40]، عنواناً لكلّ أحرار العالم، يرددونها ويتغنون بها باستمرار واعتزاز وافتخار.
ففي مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام) ليس معيار السعادة المال والحياة والترف، بل كلّ أنواع النعيم المادي ليس بشيء؛ وإنّما المعيار هو العزّة والكرامة، والحياة الشريفة، وهذه رؤية وهبها الدين الخاتم للبشرية، وطبّقها الإمام الحسين (عليه السلام) بدروس عملية، علّمنا من خلالها كيف يجب أن يكون الإنسان عزيزاً أبيّاً حرّاً، يأبى الذل والهوان، والسكوت على الظلم والانحراف، فقد غيّر (عليه السلام) نظرة الأحرار إلى الحياة والموت.
فإنّ الموت كيفما كان فهو أمر محتوم لا مفرّ منه، والمهم كيف تكون نظرة الإنسان إلى الموت، فالحسين (عليه السلام) بيّن تعريفاً جديداً للموت والحياة، وغيَّر نظرة البشر إلى الموت، وأوضح للناس أنّ الموت الحقيقي إنّما هو في العيش مع الظالم، وأنّ الحياة مخبوءة في الشهادة؛ فلمّا رأى الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ نصائحه لم تعد تنفع في حكومة بني أُميّة، وأنّ يزيد رجل فاسق وحكومته حكومة فاسدة لا تجوز مبايعته؛ ورأى أيضاً أنّ الظلم الذي تمارسه السلطة لا يمكن السكوت عليه؛ عند ذلك وقف الحسين (عليه السلام) في وجه عدوّه وقفة الأبطال، وقاتل حتى آخر نفس، وقال كلمته الخالدة: "لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرُّ فرار العبيد"[41].
وهذا السلوك من الإمام الحسين (عليه السلام) في سبيل العزّة والاستنكاف عن الذل يمثل مراد القرآن، وينسجم مع مبانيه السامية؛ إذ يجعل العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، ما يلزم عنه أنّ الذل والهوان بعيدان عن المؤمنين، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[42].
حادي عشر: اختيار إحدى الحسنيين
ما من شك في أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لو بقي في المدينة أو مكة لكانت عاقبته القتل؛ فإنّ السلطة الحاكمة كانت قاصدة إذلاله من خلال إجباره على البيعة، وبما أنّهم كانوا متيقنين وعالمين بأنّ الإمام (عليه السلام) لا يبايع يزيد؛ لذلك كان الحل الراجح عندهم هو قتله (عليه السلام)، وأمّا لو خرج متوجهاً إلى العراق فالأمر يختلف؛ وذلك لأنّ احتمال الوصول إلى الكوفة، واحتمال النصر كان قائماً. من هنا؛ فإنّ الإمام (عليه السلام) في خروجه سوف يحصل على إحدى الحسنين.
ولذا قال (عليه السلام): "إنّ بيني وبين القوم موعداً، أكره أن أُخلفهم، فإن يدفع الله عنّا، فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لا بدّ منه، ففوز وشهادة إن شاء الله"[43].
وحاصل هذا الكلام هو: أنّ الناس إذا دافعوا عن الإمام ونصروه وآزروه، فإنّ الكفة ستكون في صالح الإمام الحسين (عليه السلام)؛ وستسقط حكومة يزيد، ويتم الأمر لصالح الإسلام، فتكون حُسنى النصر، وتلك نعمة إلهية، وأمّا إذا لم يدافع الناس عن الإمام الحسين (عليه السلام)، فسيُستشهد (عليه السلام)، وتلك حُسنى الشهادة، وبتبع ذلك ستُفتضح حكومة يزيد، وسيُحيى الإسلام بدم الحسين (عليه السلام).
والنتيجة؛ فإنّ خروج الإمام من مكة إلى الكوفة كان الخيار الأفضل من بين الخيارات الأخرى، بل هو المتعين من بينها؛ لأنّ البقاء إمّا أن يكون مع البيعة، وإمّا مع الموت الصامت الذي لا يؤتي ثماره. وهذا يعني أنّ شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) ظلماً في صحراء كربلاء وأمام جيش عظيم أوجبت اندلاع حملة إعلامية عظيمة لصالح الإسلام، تفضح ظلم بني أُميّة، وتضمن حياة الإسلام على طول التاريخ.
هذه الطريقة المنطقية والعقلانية التي اتبعها الإمام الحسين (عليه السلام)، مطابقة للآيات القرآنية؛ إذ إنّه لمّا أساء بعض الناس السير في حربهم مع النبي صلى الله عليه وآله، وقالوا ما لا يليق ولا ينبغي، أجابهم القرآن: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)[44] ومعنى ذلك: أنه على أية حالٍ وعلى كلّ تقدير فإنّ طريق الحقّ عاقبته خير، سواءً أكانت الخاتمة هي الشهادة أم كانت النصر.
وبخلاف تلك العاقبة عاقبة المخالفين؛ فإنّها مهما كانت، فهي لا بدّ وأن تُفضي وتنتهي إلى الهلاك والخسران، فهي إمّا الهزيمة والذلة في الحياة الدنيا، وإمّا القتل والمصير إلى النار، قال تعالى: (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّـهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ)[45].
إذاً؛ فالعقل والمنطق يحكمان أن نُكمل طريقنا، وهذا ما فعله الإمام الحسين (عليه السلام).
ثاني عشر: وجوب قبول الإمام (عليه السلام) لطلب الناس إتماماً للحجة عليهم
تعدّدت الرسائل من أهل الكوفة، وتتابعت رسلهم إلى الإمام الحسين (عليه السلام): أَن لا أمير علينا، وأنّنا نريد أن نبايعك. ولأجل ذلك؛ أرسل الإمام الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل ممثلاً شخصياً عنه؛ ليمتحنهم ويُنبئه عن أوضاعهم. ولمّا بايع أهل الكوفة مسلم بن عقيل، تمت الحجة، وكان لا بدّ من الخروج إليهم، والتوجه إلى العراق.
ومن هنا؛ قال (عليه السلام): "هذه كتُب أهل الكوفة ورسلهم، وقد وجب عليَّ إجابتهم، وقام لهم العذر عليَّ عند الله سبحانه"[46].
ولذلك؛ نجد أنّ الإمام عندما عدد أسباب مجيئه إلى الكوفة عدَّ منها تلك الرسائل والدعوات التي أوجبت حضوره، فقد بيّن أوّلاً خصوصيات الحاكم الذي يستحق الحكومة، وأنّ يزيد لا يصلح لذلك، فقال: "ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقِّ، والحابس نفسه على ذات الله"[47].
ثمّ بيَّن أن أحد أهمّ الأسباب التي دعت إلى قدومه واختياره الكوفة هو الطلب الجماهيري من أهلها، فقال (عليه السلام): "ومقالة جلِّكم إنّه ليس علينا إمام فأقبل"[48]؛ ولأجل ذلك قَبِل دعوتهم ليتمَّ الحجة عليهم بقدومه، كما تمت الحجة عليه بدعوتهم، ويُعتبر هذا من المبادئ القرآنية التي كرر التأكيد عليها في آيات عديدة[49]. حتى أنّ القرآن الكريم جعل سبب إرسال الرسل الإلهية، إتمام الحجة على الناس.
قال الله تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[50]
وبذلك يتبيّن أنّ مبادئ وقيم ومفاصل حركة ونهضة عاشوراء جميعها كانت من صُلب الدين، ومنصوصاً عليها في القرآن الكريم، وفي آيات متعددة، فنهضة عاشوراء هي أعظم تطبيق حي لمفاهيم وتعاليم ومبادئ القرآن الكريم، فإذا ما كانت تعاليم القرآن ومبادئه تعاليم إنسانية، نابعة عن الفطرة البشرية، عرف بذلك أنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هي ثورة لكلّ البشر، ولكلّ مَن يريد العيش بكرامة وعدالة وعزّة.
بقلم: محمد علي رضائي الأصفهاني
*********************************
[1] موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ص408.
[2] التوبة: آية72.
[3] الأنفال: آية39
[4] البقرة: آية193.
[5] البقرة: آية249.
[6] موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ص408
[7]ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح: ج5، ص17. الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الحسين: ج1، ص184. نقلاً عن لجنة الحديث في معهد باقر العلوم، موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ص346.
[8] الأنفال: آية74.
[9] التوبة: آية73.
[10] المجلسي، محمد باقر، البحار: ج44، ص329.
[11] هود: آية88.
[12] النساء: آية114.
[13] آل عمران: آية104.
[14] آل عمران: آية110.
[15]الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص266. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج8، ص170.
[16] النحل: آية44.
[17] الأنفال: آية20.
[18] التغابن: آية12.
[19] الأحزاب: آية36.
[20] الحشر: آية7.
[21] الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص33.
[22] النساء: آية 97.
[23] الحج: آية 58.
[24] النساء: آية100.
[25] التوبة: آية20.
[26]الأزدي، أبو مخنف، مقتل أبي مخنف: ص85. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص304. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص48.
[27] هود: آية113.
[28] الحج: آية39.
[29] موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ص340.
[30]المصدر السابق: ص278
[31] المصدر السابق: ص408. نقلاً عن تذكرة الخواص.
[32]المصدر السابق: ص438. في رسالة إلى أهل الكوفة، وكذا في ص360 في خطاب له مع جيش الحرّ. ابن أعثم، أحمد، الفتوح: ج5، ص81. الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الحسين: ج1، ص234. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص382.
[33]للاستزادة راجع مقالة: قرآن و آزادي (القرآن والحرية)، للمؤلف، مجلة قرآن وعلم، العدد الرابع، خريف 1388ﻫ.ش.
[34] موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ص607.
[35]المصدر السابق، موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ص480. المجلسي، محمد باقر، بحارالأنوار: ج45، ص89.
[36] الأعراف: آية157.
[37] طه: آية47، وآية80، الشعراء: آية17، وآية22.
[38] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص224.
[39] المصدر السابق.
[40] موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ص16.
[41] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص98.
[42] المنافقون: آية8.
[43] الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص28.
[44] التوبة: آية51ـ52.
[45] التوبة: آية52.
[46] المازندراني، محمد مهدي، معالي السبطين: ج1، ص246. محمد تقي، ناسخ التواريخ: ج2، ص122، الدربندي، أسرار الشهادة: ص247. نقلاً عن موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ص 389.
[47] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج7، ص235. واُنظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص267. المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص39. الخوارزمي، محمد بن أحمد، مقتل الخوارزمي: ج6، ص195.
[48] موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ص379.
[49] اُنظر: البقرة: آية150. الأنعام: آية43، وآية149. الشورى: آية15.
[50] النساء: آية165.